جرس الهاتف صار إنذارا بمزيد من الكوارث, إضاءة تلك الشاشة اللعينة تطاردني في صحوي ومنامي, صار تنبيها ضوئيا لصدمة منتظرة كلما تفتحت عيني عليها في توقيت مغاير لكل التوقيتات المعتادة في التواصل بين الناس, خصوصا في زمن كورونا, زمن الوباء.
في تلك الليلة المشئومة هاتفني أبانوب, مستغيثا لإنقاذ شقيقه الذي يعاني من حالة ضيق تنفس شديد, أما والدته فتعاني من أمراض مزمنة وأصيب أيضا بكورونا, فضلا عن إصابة أبانوب ذاته, لكنه المسئول عنهما تلك المسئولية التي وضعت علي عاتقه كأخ أكبر فتولي البحث عن أماكن رعاية لهما.
عزلوا الشقيق الأصغر عن الأم الضعيفة, لكنها لم تتحسن, بعد الاتصال التليفوني, حاولت إيجاد مكان له في مستشفي حكومي لكنني لم أفلح, كل الأماكن كاملة العدد, حملوه إلي الطوارئ ليتلقي جلسة أوكسجين, ثم يعود إلي المنزل بدون علاج ولا تشخيص ولا مسحة.
كل الحكاية جلسة أوكسجين سريعة بعدها يعود صدره للاختناق, يغرق في أنفاس مكتومة, وحيدا يلفظ أنفاسه غارقا بلا مياه تغمره, غارقا في اللاهواء, عينان مفتوحتان ترجوان شهيقا, وروح أيقنت أنه لا مفر ولا نفس ولا حياة فاستسلمت للموت, مات الرجل بلا علاج, بلا أدني فرصة في العلاج. بلا مكان في زمن الوباء.
صمت الأماكن بدونهم يقتلنا, كل ركن حزين, كل الأشياء ساكنة سكون الموت, ذكريات العهد الماضي وشجون الفراق وويلات الوحدة أشد فتكا من الفيروس, هنا كان شقيقي يرعاني أثناء أصابتي بكورونا, كان يرفض تركي منفردا, ولم يتركني منبوذا وحيدا, ظل جواري إلي أن تعافيت هكذا حدثني أبانوب عن شقيقه, وبين الجملة والأخري, زفير يشق طريقه بالكاد خارج صدره المحتل بالفيروس, يصف كيف كان حنونا, وكيف مات بعدما فشلنا جميعا في توفير مكان في مستشفي حكومي, وكيف نجا أبانوب, لكن والدته لم تنج بعد.
حملوا السيدة إلي الطبيب, ـ كان ذلك قبيل وفاة ابنها ـ وقرر الطبيب أنها في المرحلة الخامسة من الإصابة, ولا يمكن انتظار سرير عناية مركزة في مستشفي حكومي وإلا سيكون مصيرها الموت, والمراحل الخمس للفيروس داخل جسم الإنسان هي إصابة الجهاز التنفسي العلوي, وأعراض شبه البرد العادي, ثم أعراض إرهاق عام تصيب كل أجهزة الجسم, في المرحلة الثالثة يدخل جسم المصاب في إصابة الرئتين بمتلازمة الضيق التنفسي, والالتهاب الرئوي, في المرحلة الرابعة يصيب الفيروس جهاز المناعة لدي المصاب. المرحلة الخامسة تنهار أجهزة الجسم تباعا.
وهكذا بدأت وظائف جسد والدة أبانوب في الانهيار. لم يكن من الممكن الانصياع للفقر وتقديم حياتها برهانا للكرامة, تم نقلها إلي مستشفي خاص. تأمين الدخول عشرون ألف جنيه, ليس لديه مبلغ التأمين, لكنه لم يترك والدته للموت, ليصبح يتيم الأبوين, لماذا يقف المال دائما حجر عثرة أمام علاج الفقراء؟
أسئلة حائرة فلسفية أحيانا وموضوعية أحيانا أخري لكنها ترد علي عقولنا جميعا.
لم يستسلم, واقترض أبانوب من الجميع, وفي اليوم التالي جمع المبلغ ودخلت والدته المستشفي, اطمئن أن الحالة استقرت ولن تحتاج لجهاز تنفس صناعي ـ وللعلم جهاز الأوكسجين هو جهاز لزيادة نسبة الأوكسجين في الدم ومساعدة الجسم علي ضخ مزيد منه ليعادل التنفس الطبيعي, أما جهاز التنفس الصناعي والذي لا يمكن وضع المريض عليه إلا داخل غرف الرعاية المركزة. فهو جهاز إدخال أنابيب عبر الجهاز التنفسي للمصاب لتعمل مكان الرئة وهي مرحلة متأخرة من الإصابة الرئوية ـ لم تكن حالة والدته في احتياج لجهاز تنفس صناعي, لكنها كانت تحتاج لضبط وظائف جسدها الذي تعرض لغزو الفيروس, وظلت في المستشفي لمدة أسبوع, كان ولدها قد توفي خلاله, لم يستطع أحد مواجهتها بما جري, حتي هذه اللحظة لم تعرف أن ابنها رحل بينما نجت هي, الكل يخفي عنها الواقع الصادم, وكالعادة لا تفصح هذه السطور عن الأسماء الحقيقة للشخصيات.
أما أبانوب فمازال الفيروس يتكاثر داخل صدره حتي هذه اللحظة منذ أكثر من شهر, يعاني ويطوف ليجمع المال الذي أنقذ والدته به, أما هي فمازالت في حالة حرجة لكن لم يكن من الممكن استمرارها داخل مستشفي استثماري, فنزيف المال كان فوق طاقة أي مساعدات يمكن جمعها, كل ما لدي أبانوب وأسرته تم إنفاقه, لم يعد لديهم سوي أثاث المنزل فقط هو الشيء الوحيد الذي لم يبعه أبانوب, فضلا عن أنه اقترض مبلغ 30 ألف جنيه ليسدد بقية فاتورة المستشفي التي بلغت مع العلاج حوالي مائة ألف جنيه.
أبانوب مازال مصابا ولا أحد يعلم لماذا لا يغادر الفيروس جسده طول هذه المدة, فكل المسحات التالية للمسحة الأولي نتيجتها إيجابية, والإرادة فقط هي التي تحمله علي قدميه ليرعي والدته, ممارسا الكذب الحاني من أجل صمودها فما بين أحزانه والرعب الساكن في أحشائه من معرفة والدته حقيقة رحيل ابنها, يحيا ممزقا, وما بين الديون التي تراكمت عليه وإصابته التي من غير المعلوم إلي أي مدي وصلت, يحيا زاهدا, فقط يخشي أن يرحل مثلما رحل شقيقه, ويترك والدته بمفردها تواجه الأحزان المغموسة في ماعون الوحدة والمرض.