الإنكار… يشهد خيبات أملنا, يواسينا, يخفف صدمة الخذلان, يحمينا في مواجهة مآسينا, في مواجهة مرايا الحق. تسقط أنصاف الآلهة التي شيدنا لها تماثيل, ومنحناها القداسة المجانية, فقط لأننا لم ننتبه لمعني القداسة الحقيقي.
في فخ الإنكار وقعت أنا وكتبت في هذه المساحة على صفحات عدد الأسبوع الماضي, عن جريمة قتل وذبح ثلاثة رهبان في دير مارمرقس الرسول والأنبا صموئيل المعترف, بجنوب أفريقيا, وبروح الإنكار التي تبتعد تماما عن طبيعتي في مواجهة الصدمات, حصرت احتمالات الجناه بين اللصوصية أو الجرائم الإرهابية, مستندة في ذلك إلى النشاط المتنامي لتنظيم داعش في جنوب أفريقيا, لكن ما أن تم الإعلان عن توجيه الاتهام لطالب رهبنة يدعي سعيد باسندا, وراهب قديم يدعى صموئيل, أدركت أنني وقعت في الفخ, مثلي مثل كثيرين منحتهم الحياة ثقة مجانية في كل رجال الدين، بتسليم كامل وبلا عودة للآيات في الكتاب المقدس كانت التجارب كفيلة بردهم خائبي الأمل, مخذولي النفس, فتكفل الواقع المؤلم بصدهم, وصدمة تلو الصدمة راحوا ينكرون أنه لا قداسة مجانية لأحد.
وإن صح الاتهام في المحاكمة, وانتهت بإدانة الراهب وطالب الرهبنة, تكون هذه الجريمة المدبرة, إشارة إلى متغيرات جذرية في نفس كلا الراهبين المتهمين, متغيرات لا تتسق مع التراكم الروحي الذي تطبعه الحياة الديرية على نفوس من يحيوها.
تساءلت في نفسي ما العجب في ذلك؟ إذا كان الشيطان ذاته ملاكا ساقطا وهو أول من مارس التمرد والعصيان ضد إرادة الله, بالرغم من أنه عاش في حضرته.
وتذكرت واقعة قتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أبو مقار, في عام 2018, وكيف اجتزنا معركة القداسة المجانية, ليتخطى الناس صدمة سقوط أصحاب الجلباب الأسود في خطية قتل, حينها أعلن قداسة البابا تواضروس الثاني, في تصريح رسمي عام 2018: لن تتستر الكنيسة على جريمة, وأتذكر أيضا حينها ما قاله في العظة التاريخية لقداسة البابا تواضروس, حينما قال: لكل يهوذا نصيبه, فهناك يهوذا خائن بنسبة50% وهناك من هو خائن بنسبة40%, وهناك خائن بنسبة10%, وهناك يهوذا الكامل 100%, وهنا كان يقصد توزيع الأدوار, وأنه لا قداسة مجانية لأحد.
أفقت من الصدمة وتذكرت ما كتبته حينها عن الحادث نصا: ربما يتكرر الحادث بصورة أبشع فيما بعد, لذلك لابد من العلاج, لكنه مر يقطر في الحلوق, وعلقم ينضح من كل مكان سيرفضه ويلفظه قطاع كبير, لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح, فصدمة الإنعاش غالبا ما تكون ضرورة للبقاء, وها هو يتكرر بالشكل الأبشع.
لذلك تخلينا عن الإنكار لصالح الإفصاح الذي يعيد ترتيب المفاهيم ويضعها في سياقها السليم, وعلى رأسها مفهوم القداسة, التي هي الفرز, والفصل, عن العالم الشرير والعلاقة الخاصة مع الله, ولم تعن أبدا الكمال, فالكل تحت التجربة, لكن قساوة القلب,قوة التجربة, ضعف الإيمان, نداءات الشيطان, تخدير الضمير, الكمال الزائف, جميعها تضع الإنسان بين فكي الشيطان, وإما أن يصبح شوكة عصية على الابتلاع, أو لقمة سائغة مهضومة بسهولة, فتضرب الخطية روح الإنسان وتمسخه وحشا, القداسة اختيار وإرادة, والخطية أيضا إرادة
ليس التقديس كما يظن البعض أن يكون الإنسان المؤمن بلا خطية لكن كما يقول الكتاب: إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا…إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذبا, وكلمته ليست فينا (1يوحنا1: 8و10), وعلى كل من يقترب من فخ الإنكار أن يتذكر هذه الكلمات.