لم يخطر ببالي أبدا أن أستقل حافلة ليلية لمدة 12 ساعة حتي أذهب إلي واحة بالقرب من الحدود الليبية لأري مكانا وسط الصحراء الغربية, لكنني فعلتها, وانضممت لفريق العمل الذي نظمته جمعية كتاب البيئة والتنمية بالتعاون مع وزارة البيئة ليري الناس بعيون الإعلام كنوز بلدنا.
وقبل أن تشرق الشمس علي نهار اليوم التالي كنا قد قطعنا نصف المسافة تقريبا, واستسلمنا للنعاس لنفيق علي أبواب أرض النخيل, أو كما يسمونها باللغة السيويةسيخت يام. إنها معجزة الصحراء سيوة.
وسط وحشة الصحاري, وتحت قسوة الجبال بين الصخور الفريدة والكثبان الرملية العملاقة الممتدة علي مساحة الصحراء الغربية, وعلي بعد 65 كم من الحدود الليبية, يلبس الجمال ثياب البراءة الأولي والهدوء المفقود في ضجيج المدن ثلاثة أيام من الجولات تخطق العقول إلي ما وراء سحر التاريخ ومعاركه في كل بقعة رأيناها كنا نتساءل كيف كانت النجاة من الطامعين الذي مروا عليها في قوافل وغارات لكنها نجت, واستطاعت أن تخلق من انكسارات الغزاة انتصارات, حتي صارت مقصدا سياحيا عالميا عززته العوامل البيئية الفريدة التي تحظي بها واحة سيوة الممتدة لمسافة 1088 منها 7800كم, تم إعلانها محمية طبيعية في عام.2002
علي مدار ثلاثة أيام طفنا أرجاء الواحة والمحمية, بجهد دؤوب وكرم وفير اصطحبنا خلالها إبراهيم عمر باغي مدير محمية سيوة, ذهبنا إلي قلعة شالي, حصن أمان المدينة التي حماها محمد علي باشا, وجبل الموتي, حيث مقابر القدماء هناك يتزاوج التاريخ مع سحر الطبيعة, ومغامرة الصعود أجمل حينما تطلق ناظريك إلي أسفل فتري أرض النخيل ممتدة علي طول خط النقاء الموصول في الهواء والماء, في الملح والطين, ومن شالي وجبل الموتي إلي جبل الدكرور ذي الرمال الساخنة العلاجية ومعبد آمون الذي أقيم في العصر الفرعوني إلي متحف البيت السيوي المشيد بالتعاون مع الحكومة الكندية, علي طراز البيت السيوي التقليدي باستخدام الطوب اللبن وجذوع النخيل, ويجمع بين أرجائه تاريخ الحياة السيوية وتطورها.
هناك يمكن إدراك المعني الشامل للسياحة البيئية, بالتعامل مع الميراث الفطري الطبيعي والحضاري للبيئة وممارسة الحياة في إطار معادلة الحماية للمكون البيئي والثقافي والتراثي, ذلك المعني الذي دفع الأسئلة لتصارع بعضها البعض في رأسي, فكيف لهذه المعجزة المعزولة في قلب الصحراء ألا تحظي بالقدر المناسب من التنمية؟
قبل أن يقفز السؤال فوق لساني, متجها إلي مدير المحمية, اخترق سمعي صوت رجل يتحدث الإنجليزية بفضول الصحفي أدرت رأسي, وإذا به كريستيان بيرجر, سفير الاتحاد الأوروبي بصحبة زوجته ومدير مكتبه, في زيارة لدراسة بعض المشاريع التنموية, مفاجأة أثلجت صدري, وابتسامة الراحة اعتلت وجهي ووجوه فريق الصحفيين, ووجدت في الصدفة ردا علي لهفة الانتماء لقطعة من بلدي, وتذكرت ما أعلنته الدكتورة ياسمين فؤاد, وزيرة البيئة, عن البدء في الإعداد لدراسة تطوير منطقة الجارة بمحمية سيوة وتحويلها إلي مقصد فريد للسياحة البيئية, بالتعاون مع مشروع البرنامج البيئي للتعاون المصري الإيطالي المرحلة الثالثة, لخلق روافد جديدة للسياحة البيئية.
لم تنته الجولة بعد, فبين 200 عين وبئر مياه في سيوة أهمها وأشهرها عين كليوباترا التي تنبع منها مياه الينابيع الساخنة الطبيعية, كنا هناك وذهبنا إلي عين فطناس التي تري منها أجمل موقع لغروب الشمس.
وفي الأفق بحر الرمال العظيم الذي تضم المحمية جزءا منه داخلها, ذلك الغروب الذي احتضن أعدادا كبيرة من السياح, طلبة وأساتذة جامعيين مصريين, وفريقا من الصحفيين, ونساء ورجالا من كل الجنسيات.
علي حواف بحيرات الملح, بين شهيق يرجو البقاء, وزفير يعلن موعد الرحيل, جلسنا نتأمل كيف يتناثر الثلج, نعم تبدو بلورات الملح وكأنها بلورات من الجليد المتماسك وغير المتماسك كالأطفال لهونا بها, وضعنا أقدامنا في المياه علنا نحظي بشفاء من علل المدن, قبل مغادرة حان وقتها علي مضض لكنها حتمية.