إن كنت خائفا فلا تكتب وإن كتبت فلا تخف هكذا قال الكاتب والروائي إدريس علي الذي حصل علي نسبة كبيرة من شهرته بسبب المعارك التي كان يخلقها حول كتاباته.. هذا الروائي الكبير الذي رحل عن عالمنا منذ عدة أيام عن عمر يناهز 70 عاما بعد حياة درامية حافلة بالمفارقات فهو من مواليد أسوان عام 1940,وينتمي إلي أسرة بسيطة ولم تمكنه الظروف المعيشية من تلقي تعليم نظامي لذلك عمل في مهن عديدة قبل أن يصل إلي وظيفة صغيرة في إحدي شركات المقاولات وخاض إدريس في حياته عدة تجارب انعكست في كتاباته خاصة تجربة التحاقه كمجند في حرب اليمن وعمله في ليبيا أواخر السبعينيات.
الاعتراض علي فصل النوبة عن مصر
وبدأ إدريس علي عمله ككاتب نوبي متميز مع صدور روايته دنقلةومن هنا بدأ تيار جديد في الأدب المصري سماه بعض النقاد الأدب النوبي,تلك التسمية التي رفضها الروائي إدريس علي واعتبرها تعبيرا عن كسل نقدي ومحاولة لعزل الأدب االذي يكتبه كتاب النوبة عن المجري العام للأدب المصري,مؤكدا علي أنه لايوجد شيء اسمه أدب نوبي فالنوبيون هم جماعة بشرية من ضمن المجتمع المصري وليس عرقا منفصلا ,لذلك هو ضد محاولة فصل النوبة عن مصر,فالجيل الجديد كما يذكر لايعرف اللغة النوبية وهي شفاهية,والأغرب أن الأطفال الذين ولدوا في النوبة ولايزالون هناك يتكلمون اللهجة القاهرية فأين الخطر؟!!
وأبدع قلم الكاتب إدريس علي العديد من المؤلفات أهمها رواية دنقلة, انفجار جمجمة, المبعدون, واحد ضد الجميع, مشاهد من قلب الحجيم, اللعب فوق جبال النوبة, كما حصر العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب ,جائزةجامعة اركتورالأمريكية عن ترجمة روايتهدنقلةإلي الإنجليزية في 1997,كما حصد جائزة معرض الكتاب عن روايتهانفجار جمجمة.
دنقلة..وكتابة البوح
كتابة البوح رباعية كتبها إدريس علي,من هذه الرباعية روايةتحت خط الفقرالتي يوجه فيها تحذيرا إلي القاريء بأنهاللكبار فقطإذا كنت تعاني من ارتفاع طفيف في ضغط الدم لاتقرأ هذه الروايةربما لأنها تثير أسئلة عن غرق بلاد النوبة وعن حقوق المواطنة في مصر ويمكن للقاريء أن يعيد ترتيب فصول الرواية التي تبدأ بفصل عنوانهالقاهرة..أغسطس1994 الوطن..العذاب..الرحيلوتحمل الفصول التالية عناوين منهابلاد النوبة الشمالية.1947الجوعو1954 السقوط الكبيرو1956 الموت..الحب..الحربويناير1952 حرائق..حرائقفي إشارة إلي حريق القاهرة يوم 26 يناير كانون الثاني 1952 الذي لم يتوصل أحد حتي الآن إلي معرفة مدبريه أو منفذيه.
وصدرت الرواية عن دار ميريت بالقاهرة في232 صفحة من القطع المتوسط وتحمل رقما واحدا من رباعية أطلق المؤلف عليها اسمكتابة البوحوفي الصفحة التالية سجل ما وصفه بأنه أقوال في المواجهة منهايا فقراء العالم اتحدواولا تقبل اليد التي لاتستطيع قطعها وانظر خلفك في غضبوعنوان قصيدة الشاعر المصري أمل دنقللا تصالحوبيت المتنبي نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفني العناقيدويحتل وجه رجل نوبي بعينين حادتين مساحة كبيرة من الغلاف الذي صممه الفنان المصري أحمد اللباد بينما تطل صور صغيرة جدا للملك فاروق ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر من فتحات في بناية تبدو في قامة النوبي.
والراوي كما هي الحال في معظم كتابات المؤلف كما يقول االأديب سعد القرش متمرد وساخط وذو عين لماحة لمصائر الأيام ففي الصحات الأولي للرواية يرصد موجة حر دفعت رجال الحكومة إلي أنيديروا البلاد وهم بملابس البحر.عراة يحكمون عرايا.كان شاطيء المنتزهبمدينة الإسكندريةيحتله ملك واحدفاروق الذي حكم ابتداء من عام 1936ثم وثب عليه رجال الدباباتفي إشارة إلي انقلاب ضباط الجيش في 23 يوليو تموز عام .1952ويضيف معلقاالمصيبة أنهم حولوا كل شواطيء البلاد لمتنزهات خاصة حالوا بينك وبين النيل فقررت الموت داخله كنوع من الاحتجاج المشروع لم يعد هناك ما يستحق شرف المقاومة بعد أن باعوا الوطن وكل ما يمكن بيعه وباتت الحرة تأكل بثدييها والأيدي الغبية امتدت إلي ورقة التوت فقلت لنفسك..ارحل مستورا أفضل.
ويقول الراوي قبل أن يلقي بنفسه في نهر النيلليست هذه مصر التي عرفناهاويعلق علي مثل مصري يعزي به البعض أنفسهم هوالبلد بلدهمفيتساءل: لماذا تشغل نفسك بمثل هذه المنغصات؟بلدهم وهم أحرار فيهاكذا.أم هي هلوسات ما قبل النهاية؟وبعد إنقاذ الراوي يسأله منقذه عن سر الغضب فيروي له حكايته وحكاية بلاده التي غرقت أكثر من مرة, آخرها عند تنفيذ مشروع السد العالي.كما تساءل عن أسباب توقف قطار مصر عند أسوان: لماذا اختزلتم الحدود عند أسوان؟.
ويعلو صوت الراوي مشيرا إلي وقائع مشهورة في العالم العربي. وتبريرا أو تفسيرا للصوت العالي لبطل الرواية سجل المؤلف في مصارحة قبل سرد أحداث الرواية أنه فقد السيطرة علي الراوي الذي أصبحيهلوس وكأنه يتحدث في غابة وبلا ضوابط.. وقد حاولت توجيهه بلا جدوي. بدا جارحا قاسيا..وكأنه لم يسمع عن الرقابة ونواب التكفير ولاعن التسامح وقبول الآخر.
وفي روايتهدنقلةالتي صدرت عام 1993 نجد أنها كانت سببا في تفجير قضايا النوبة والنوبيين المصريين الذين يشعر بعضهم بالظلم بسبب إغراق بلادهم عند بناء السد العالي.وقد أنشئت وقت غرق النوبة قري بديلة للنوبيين إلي الشمال من النوبة القديمة.وتقع مدينة دنقلة شمالي السودان.وتعمد الكاتب أن يضع علي غلاف روايةدنقلةتعريفا يوضح أنهارواية نوبيةثم أهداها إليأصدقائي وأحبائي أهل الشمال..هذا صوتي فلا تسكتوه وهذا أنا فلا ترجموني لأني عشت بينكم وأكلت معكم وعشقت حضارتكم ومازلت إنما أنقل لكم وبصدق جرح بعض أوجاعي وأوجاع قومي.
وتحت عنوانوصمةسجل سطورا من كتب أسوان في العصور الوسطيلمحمود محمد الحويري جاء فيها أن القبائل العربية التي أقامت في منطقة المريس شمالي النوبة في القرون الأولي للإسلام تاجرت في رقيق النوبة إذكانت تقوم بخطف بعض النوبيين وبيعهم للتجار في مصر ويروي المقريزي أن عبد الرحمن العمري عندما انتصر علي النوبيين في الموضع الذي يعرف بشنقير بين بربر وأبي حمد كثر السبي عند أصحابه.
وأثارت روايةدنقلةغضب مثقفين مصريين رأوا فيها ما اعتبروه دعوي انفصالية كما أغضبت بعض النوبيين من المؤلف الذي اتهموه بالتطاول علي التقاليد الاجتماعية في منطقتهم وهو ما أدي به إلي انتحار لم يتحقق حيث واجه ظروفا قاسية من الطرفين دفعته عام 1994 بعد صدور الرواية إلي القاء نفسه من فوق جسر قصر النيل ولكن أحد الصيادين أنقذه مصادفة من الغرق في النهركنت غائبا عن الوعي وهذا منحني شجاعة الانتحار بلا خوف من الموت أو الأسي علي أي شيء.
اللعب فوق جبال النوبة
تتميز رواية اللعب فوق جبال النوبةالتي تجري أحداثها علي أرض قرية نوبية بعيدة في جنوب الوادي بسرعة الإيقاع والتشويق الذي يبعثه المؤلف في نفس المتلقي وذهنه,كما أنه استطاع أن يخلق فيها عالما ثريا ممتليء بالمجهول والأساطير والخرافات في لوحة تتلاحق فيها الأحداث بسرعة فلا يشعر القاريء بملل,كما يظهر بها بيئة النوبة الجميلة الهادئة الساكنة بإيقاعها البسيط وأعرافها وتقاليدها المتشعبة في أعماق التاريخ تحفها الأساطير من كل جانب,عبر أحداث متشابكة من الامتزاج والاختلاف وبين التنوع والثراء.
وتدور الأحداث في أجواء متضادة بين القاهرة العاصمة التي ولدت بها بطلة الرواية لأب نوبي أسمر اللون وأم قاهرية جميلة شاهقة البياض ورثتغادةبطلة الرواية كل جينات أمها الوراثية وحين كبرت تم إبعادها عن القاهرة إلي مسقط رأس أسرتها هناك في النوبة لأنها ارتكبت جرما اسمهالحبمع بقاء الأب في العاصمة لممارسة عمله والعيش مع زوجته النوبية الجديدة بعد موت أمها,ومن منطلق الغيرة قامت زوجة أبيها باستبعاد الفتاة البيضاء كنوع من العقاب وللتخلص مما تصوره الأب نوعا من التجاوز الذي لايراعي التقاليد الموروثة حيث لايمكن زواج الفتاة النوبية إلا من شاب نوبي مثلها كما تقتضي التقاليد وبحضور غادة إلي القرية البعيدة كل البعد عن صخب وضوضاء العاصمة,تعرضت للعديد من الأحداث والمفارقات,ومحاولات الهروب المستمرة من تلك القرية التي دفنت بها أحلامها وشبابها.