المؤلف:نسيم مجلي
الناشر:كتاب الجمهورية
إن ارتباط الشاعر أمل دنقل بقضايا النضال الوطني وانحيازه لآلام الجماهير العريضة في مواجهة الظلم والطغيان والقهر قد ملأه بروح الثورة والتحدي وكان من أقوي مصادر إلهامه الشعري وكان في الوقت نفسه رافدا كبيرا تتدفق منه حرارة المشاعر وقوة التعبير,ولهذا أصبح أمل دنقل شاعرا كبيرا له صوت منفرد عن كل أبناء جيله من الشعراء الذين ظهروا في الستينيات ,كما كان له شعبية كبيرة لم يحرز مثلها إلا قلة نادرة من الشعراء والرواد,وربما جاء ذلك لإعجاب الجماهير بنغمة الرفض الحادة في شعره ولتميز قصائده بقوة البناء ورصانة التعبير ووضوح الموسيقي بدرجة تجعل من السهل علي القاريء متابعة القصيدة وتفهمها,وهذه سمات عامة تتجلي بوضوح في أشعاره وقصائده التي ولدت في خضم الصراع مع الواقع المريض والأحداث الكبري في حياة الوطن والأمة وكانت انعكاسا لوجدانه الصادق إزاء هذه الأحداث,وفي هذا الإطار قام الكاتب نسيم مجلي في كتابهأمل دنقل أمير شعراء الرفض بدراسة شعره وقصائده التي صنعت شهرته وتقييم دوره كشاعر ثوري من طراز عظيم.
ينسج الكاتب نسيم مجلي في كتابه خيوط الذكري لتستعيد أحداث ميلاد الشاعر الكبير أمل دنقل في 23 يونية عام 1941 بقرية القلعة بمدينة قنا أقصي صعيد مصر,حيث كان أمل أحد ثلاثة إخوة هو أكبرهم وتوفي والده وهو في العاشرة من عمره واستمر في تقدمه في الدراسة بتفوق ونبوغ حتي وصل إلي المرحلة الثانوية,وفي السنة الأخيرة منها فوجيء الجميع بأن أمل ابن الرابعة عشر يكتب القصائد الطويلة ويلقيها في احتفالات المدرسة,مما أثار شكوك زملائه والتهمه أقرانه بسرقة قصائد أبيه الذي كان مدرسا للغة العربية وشاعرا وذلك لدقة معاني القصائد وصعوبة ألفاظها,ولكن استطاع أمل خرس ألسنتهم جميعا بهجاء جارح وعنيف من الأشعار الفصحي والعامية أثبت فيها أنه شاعر حقيقي,ولعل هذا الموقف يكشف عن أهم سمات شخصية أمل دنقل,وهي الذكاء والموهبة والشجاعة والطموح والتحدي وهذه الخصال هي التي شكلت حياته وجعلت منه هذا الشاعر المرموق.
شيطان الشعر
ويحكي لنا الكاتب كيف داعب شيطان الشعر خيال هذا الفتي حتي أنه لم يستطع الحصول علي مجموع في الثانوية العامة يؤهله لإحدي الكليات المرموقة,مما دفعه للذهاب إلي القاهرة والتنقل بين المدن حتي عاد واستقر بمدينة القاهرة ,وبسبب مواقف صدامه الدائم مع قوي التخلف والقهر حرم من التعامل مع الإذاعة والتليفزيون والصحف الحكومية عشر سنوات,كذلك لم يعط وظيفة دائمة وثابتة وظل يعاني من الفقر والحرمان في صلابة وشموخ حتي بعد أن أصبح شاعرا مشهورا علي مستوي العالم العربي كله,وهذا جعله يضرب عن الزواج لمدة طويلة حتي لايضطر للتنازل عن شيء من قيمه ومبادئه,وظل علي هذا الحال حتي غلبه الحب فتزوج من الناقدة والصحفية عبلة الرويني التي كانت تحب الشعر والشعراء.
وهكذا ظل أمل دنقل يصارع واقعا متخلفا مقهورا ومناخا ثقافيا معاديا لطموحات الإنسان في العدل والحرية والمساواة,حتي صرعه ذلك الواقع وهو في قمة النضج والعطاء ومات عام 1983 بالمعهد القومي للأورام بالقاهرة,حيث وضع الموت نهاية لآلامه وعذابه,إلا أن قصة نضاله كشاعر ثائر كرس حياته وموهبته لفنه سوف تظل نورا كاشفا يهتدي به السائرون في دروب الفن الصادق الملتزم بقضايا الإنسان وشوقه للعدل والحرية.
دعوة للتمرد
ويؤكد الكاتب أيضا في كتابه علي أن أمل دنقل لو تصالح مع الواقع لما حقق شيئا من أمجاده الشعرية فقد كان الصدام يفجر طاقاته الروحية ويحفز قدرته علي العناد والصمود والتحدي ويقدح موهبته,فيري ما لا يراه آخرون ففي الصدام كان قدره ومأساته,وفي الصدام كان شموخه وخلوده, ومن يتابع ظهور قصائده يلاحظ أن التحول الحقيقي في مسيرته الشعرية حدث بقصيدةكلمات أسبارتكوس الأخيرةفي أبريل عام 1962م,التي تؤكد علي تحول أشعاره من الرومانسية والتعبير عن الذات إلي القضايا السياسية والاجتماعية, وعلي الأخص قضية الحرية الإنسانية المتمثلة في حرية التعبير والتفكير والرفض,وتعد هذه القصيدة أولي قصائده الكبري التي صنعت مجده وحققت له الشهرة, حيث يتكلم فيها الشاعر بلسان أسبارتكوس,ذلك العبد الذي قاد ثورة العبيد ضد طغيان الأروستقراطية الرومانية الإقطاعية في القرن الأول قبل الميلاد وشنق بالقرب من أبواب روما وهو يعبر عن موقفه,وهو يمجد الشيطان رمز التمرد الخالد قائلا:
المجد للشيطان…معبود الرياح..
من علم الإنسان تمزيق العدو
من قاللا فلم يمت,وظل روحا عبقرية الألم!
شعر النبوءة
تعد قصيدةالأرض والجرح الذي لا ينفتحكما يقول نسيم مجلي من أهم قصائد أمل دنقل التي قدمته للقراء العرب إذ أحدثت تأثيرا قويا حين تم نشرها في مجلة روز اليوسف في مايو سنة 1966م,وهذه القصيدة تمثل رؤية فاجعة للواقع العربي تفيض باليأس والقتامة,ونبوءة بكارثة وشيكة الوقوع,وصيحة تنبيه أطلقها الشاعر فلم تلبث أن تلاشت في صحراء اللامبالاة العربية,فلم يكد ينقضي عام علي نشرها حتي داهمتنا هزيمة يونية, ولهذا لم يعد شك في صدق رؤية هذا الشاعر وفي رهافة حسه حين قال:
الأرض مازالت,بأذنيها دم من قرطها المنزوع
قهقهة اللصوص تسوق هودجها..وتتركها بلا زاد
تشد أصابع العطش المميت علي الرمال
تضيع صرختها بحمحمة الخيول
الأرض ملقاة علي الصحراء…ظامئة
وتلقي الدلو مرات..وتخرجه بلا ماء!
وتزحف في لهيب القيظ
تسأل عن عذوبة نهرها
والنهر سممه المغول
وعيونها تخبو من الإعياء تستفي جذور الشوك
تنتظر المصير المر…يطحنها الذبول
في مواجهة النكسة
ويسترجع نسيم مجلي ذكري آلام وأحزان نكسة 1967 وقصيدة أمل دنقل التي كرست موهبته كشاعر أصيل وهيالبكاء بين يدي زرقاء اليمامة, ليكشف عن الخلل الذي أدي إلي وقوع المأساة فكانت هذه القصيدة محاولة لتصوير ما حدث علي أرض الواقع وشرح أسبابه الحقيقية, ولذلك استعان الشاعر بشخصين من التراث العربي, وهما عنترة العبسي الذي ظل عبدا عند أبيه حتي حلت بقبيلته شدة لم ينقذها منها إلا هو, ويرمز به لشخصية المواطن العربي الكادح الذي لايهتم بوجودة أحد من الحكام حتي تقع الكارثة فيهرعون إليه مستنجدين, والشخصية الثانية هي زرقاء اليمامة تلك الفتاة التي عرفت بحدة بصرها وقدرتها علي الرؤية من بعيد,فأنذرت قومها بهجوم ملك حمير,حيث رأت جيشه علي مسيرة ثلاثة أيام,ولكن لم يصدقوها وكذبوها حتي داهمهم الجيش وأبادهم وفقأ عينيها,ويرمز الشاعر بها لشخصية مصر القادرة علي الرؤية والتنبؤ,إلي جانب تحملها لنتائج أخطاء الآخرين وإهمالهم,أما الشخصية الثالثة فهي شخصية الجندي الجريح العائد من المعركة,والذي يفتتح القصيدة بتقديم شهادته عن المعركة التي اشترك فيها كما رآها وعايشها في ميدان القتال قائلا:
أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك….مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلي,وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف,مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء..
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع وهو لايزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات…ملقاة علي الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء…
فيثقب الرصاص رأسه…في لحظة الملامسة!
رسالة
ويري الكاتب أن أمل دنقل كتب قصيدةأغنية الكعكة الحجريةإبان انتفاضة الطلبة عام 1972 م والتي كانت بداية لسلسلة من المظاهرات التي عمت الجامعات في جميع المحافظات, بسبب القلق الذي سبق حرب أكتوبر 1973 إذ رأي كثير من المثقفين والكتاب أن القيادة السياسية غير جادة في الإعداد لمعركة التحرير,وفي هذا الجو المشبع بالحيرة واليأس جاءت هذه القصيدة دعوة صريحة للثورة ضد النظام,مما يجعل المقطع الأول منها وكأنه منشور ثوري قائلا:
أيها الواقفون علي حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت,وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة
والزنازن أضرحة
والمدي أصرحة فارفعوا الأسلحة
واتبعوني
الرؤية الشعرية لحرب البسوس
وأخيرا يضيف الكاتب أن أمل دنقل تناول حرب البسوس في قصيدتين كبيرتين,أولهما قصيدة لا تصالحفي عام 1975 م بعد توقيع اتفاقية فصل القوات الثانية بين إسرائيل ومصر,حيث عبر فيها عن رفضه المطلق للتصالح مع أعداء أمته العربية ورفضه للسلام الزائف,لذلك دعا إلي المواجهة النضالية ورفض التصالح والسير في طريق القتال للأخذ بالثأر حتي لو استمرت الحرب طول المدي,حيث تتضمن قصيدةلا تصالحوصايا كليب المقتول وتحريضه لأخيه سالم الزير برفض الصلح والاستمرار في الحرب حتي يثأر لمقتله ويمحو عار قومه قائلا:
لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أتري حين أفقا عينيك؟
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل تري؟
أما القصيدة الثانية فهي مقتل كليب ومراثي اليمامة عام 1980 وهي تمثل دعوة للتجديد والبعث القومي ,حيث يري أنه لن تتجدد حياة العرب إلا بدخولهم الحرب لتطهرهم من كل السلبيات وتهيئتهم لحياة حرة كريمة,وجعل الحرب تأخذ من الأسباب والبواعث ما يبرزها ويجعلها مطلبا عادلا حتي لو أستمرت إلي أجل غير مسمي.