عن حسة النقدي للعديد من الآراء والاتجاهات التي رأي أنها بعيدة عن العقل والمعقول فنقد أفكار الصوفية وآراء الأشاعرة ووجهات نظر المقلدين والرجعيين,وكان في نقده معبرا عن كل ماهو عقلاني تنويري,مبتعدا تماما عن ظلام الفكر,كان ابن رشد عالما وطبيبا,بالإضافة إلي كونه فيلسوفا يؤمن بوجود علاقات ضرورية بين الأسباب والمسببات وبأن البرهان العقلي يعد أسمي صورة الأدلة لقد قدم لنا هذا المفكر العملاق نسقا فلسفيا محكما يعد تعبيرا عن ثورة العقل وانتصاره,ولهذا فهو جدير بأن يدخل تاريخ الفكر الفلسفي من أوسع أبوابه وبمناسبة ذكري مرور ثمانية قرون علي رحيله,يدعو الدكتور عاطف العراقي في كتابهابن رشد فيلسوفا عربيا بروح غربية جميع المشتغلين بدوائر الفلسفة في جميع أنحاء العالم إلي الجمع بين مؤلفات ابن رشد وشروحه علي أرسطو لأن من الخطأ,كما يقول د. عاطف العراقي,أن تقتصر فلسفة أي فيلسوف من فلاسفة العرب علي ما تركه لنا من مؤلفات ونستبعد ماقام به من شروح علي فلاسفة اليونان,لأن يقينا لو جمعنا بين المؤلفات والشروح لتوصلنا إلي نتائج تختلف جوهريا عن تلك النتائج العقيمة والتقليدية.
يشير الدكتور عاطف العراقي في كتابة إلي أن ابن رشد نشأ في بيئة عقلية فجده كان من كبار الفقهاء,وكذلك والده,مما أدي إلي تعمقه في دراسة الفقه بدليل وضعه لكتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقهوأصبح بذلك أوحد عصره في علم الفقه إلي جانب دراسته لعلم الكلام ولمذاهب الفلاسفة وللطب,وبذلك تعمق فيلسوفنا في دراسة ميادين عديدة تكاد تشمل كل العلوم والمعارف الموجودة في عصره وقد تعرض للنفي إليالأليسانةبالقرب من قرطبة بسبب تصوير بعض الفقهاء لمبادئه علي أنها رغبة منهم في الاستيلاء علي الجو الفكري وتصوير الدين وكأنه يتنافي مع الفلسفة.
ابن رشد ومكانته في أوربا
ويؤكد الدكتور عاطف العراقي في كتابه علي أن أهم وأعظم عمل قام به ابن رشد وجعله يحظي بهذه المكانة في أوربا هو شرحه أرسطو وتقديم فلسفة خالية من الشوائب والمتناقضات والتأويلات الفاسدة التي طالما وجدناها عن أسلافه من الفلاسفة,لذلك يجب عدم الاقتصار علي مؤلفاته التي لا تمثل غير جانب تقليدي في فلسفته أما إذا أردنا الغوص وراء المعاني الحقيقية لفلسفته فلابد من الرجوع إلي شروحه علي أرسطو,حيث نجد بينها نقدا حرا جريئا للمتكلمين وغيرهم من مفكري الإسلام مثل الفارابي وابن سينا,إلي جانب دعوته إلي اللجوء إلي القياس البرهاني ذات المباديء العقلية والمنطقية التي لايستطيع أي فيلسوف التخلي عنها في بحثه في قضايا الفلسفة,وتجاوز ماعدا هذا من أساليب إقناعية وخطابية وجدلية خاصة بأصحاب علم الكلام والسوفسطائيين ولمن يقول إن هذه الشروح لاتمثل وجهة نظر ابن رشد الحقيقية,باعتبار أن المفكر حين يؤلف كتابا يودعه أفكاره وحين يشرح كتابا لغيره يوضح أفكار واضع الكتاب وليس أفكاره نرد عليهم بأن ابن رشد يختلف تماما عن هذا لأنه أولا يبدي إعجابه الشديد بأرسطو بدليل أنه يفضله علي جميع الفلاسفة,ثانيا تأييده لمنهج أرسطو البرهاني وتبريره لأقواله في أكثر نظرياته,ولعل ظروف المجتمع في عصر ابن رشد التي لم تكن تسمح بالتعبير الحر عن الأفكار هي التي جعلت مؤلفاته تعبر عن مجرد جوانب تقليدية من فلسفته.
المنهج النقدي والحوار بين الحضارات
ويفتخر الدكتور عاطف العراقي في كتابه بالفيلسوف ابن رشد لأسباب عديدة من أهمها الحس النقدي الذي تميز به بصورة أكثر دقة وشمولا ولعل توليه منصب القاضي الذي يقوم بالموازنة والمقارنة وترجيح رأي علي الآخر يعد من عوامل بروز هذا الحس النقدي والانتقال منه إلي الجانب البنائي الإنشائي الإيجابي ,هذاإلي جانب نزعته التنويرية خاصة حين دعي إلي الانفتاح علي كل الثقافات والتيارات الأجنبية الخارجية وقبول الصواب من فلاسفة اليونان مع الشكر عليه والتنبيه علي الخطأ ,هذا بالإضافة إلي اتجاهه العلمي حيث كان عالما وطبيبا واعتزازه بتأويل الآيات القرآنية الكريمة,وبذلك أصبح ابن رشد أكبر عميد للفلسفة في بلاد المشرق والمغرب معا,وصاحب دعوة تمجيد العقل وإعلاء كلمته فوق كل كلمة,لذلك آن الأوان لدراسة الفلسفة الرشدية والكشف عن فساد الفكر الظلامي والتقليدي والإرهابي والتوجه نحو كل مافيه خير لنا وللإنسانية جمعاء.
الفلسفة الرشدية وانتصار العقل
ويضيف الدكتور عاطف العراقي في كتابه أن فلسفة ابن رشد تعد تعبيرا عن ثورة العقل وانتصاره إذ نري أن المنهج العقلي الذي اتبعه في فلسفته يقوم علي أساس النقد,لذلك أقام نقده لطائفةالحشويةالذين يريدون الوقوف عند ظاهر الآيات بحيث يجرمون التأويل العقلي علي أساسين:أولهما أن الإنسان حيوان عاقل وحين يلغي الحشوية دور العقل في تأويل الآيات فإنهم بهذا يلغون الإنسانية ويساوون بين الإنسان العاقل والحيوان غير العاقل,وثانيهما أن إلغاءهم للنظر العقلي لايتفق مع آيات القرآن التي تحث علي وجوب النظر والتفكير والاعتبار وهكذا استطاع ابن رشد بمنهجه النقدي الدعوة إلي التأويل وإقامته علي أساس العقل.وبهذا المنهج أيضا نقد منهج المتكلمين الجدلي الذي سارت عليه الفرق الكلامية سواء كانت من المعتزلة أو الأشاعرة وفند آراءهم في مشكلات عديدة كالخير والشر,القضاء والقدر,ووجود الله.
الغزالي وتكفير الفلاسفة
ويذكر الدكتور عاطف العراقي في كتابه أن الطريق الصوفي الذي يزعم أصحابه أنه طريق يؤدي إلي معرفة الله يتنافي مع الطريق العقلي لابن رشد ولعل هذا كان من الأسباب القوية التي دفعته إلي نقد فكر الغزالي الذي يعبر عن الفكر الأشعري الصوفي,خاصة أن الغزالي حين ألف كتابهتهافت الفلاسفةأي تساقط وانهيار آراء الفلاسفة تحدث عن عشرين مسألة من المسائل التي بحث فيها الفلاسفة وانتهي إلي تكفيرهم ,مما أدي إلي عرض ابن رشد في كتابهتهافت التهافتلآراء الغزالي ونقدها وبهذا أظهر حقيقة رأي الفلاسفة التي تختلف عن فهم الغزالي الخاطيء لها والإشارة إلي أن واجبا علي الغزالي الرجوع إلي كتب الفلاسفة أنفسهم وليس الاعتماد علي فهم ابن سينا الخاطيء لأرسطو وليس علي مذهب أرسطو الحقيقي ,ولعل هذا ما دفع ابن رشد إلي نقد ابن سينا أيضا لابتعاده عن الطريق العقلي وتخليص فلسفة أرسطو من العناصر الدخيلة عليها وتقديمها للعالم الإسلامي خالية من أخطاء وتأويل بعض المفسرين.
ابن رشد وفكرنا المعاصر
ويختتم الدكتور عاطف العراقي كتابه مستغربا لأننا نبحث اليوم عن حلول للكثير من مشكلاتنا في الوقت الذي قدم لنا فيه ابن رشد منذ ثمانية قرون المنهج الذي يساعدنا علي حل المشكلات,إننا نتحدث اليوم عن قضايا التنوير,والتطرف والإرهاب ,وقضايا الأصالة والمعاصرة غافلين عن تراث هذا المفكر العربي الكبير الذي يغرق في بحر من الإهمال والنسيان,وفي الوقت الذي تقدمت فيه أوربا لاهتمامها بفلسفة ابن رشد,أصابنا التأخر نحن العرب, لأن النموذج كان عندنا يتمثل في مجموعة من المفكرين التقليديين والذي يعبر فكرهم عن الرجوع إلي الوراء والصعود إلي الهاوية.لقد دعانا ابن رشد إلي الاتخاذ بالعلم وأسبابه ولو كنا قد وضعنا نصب أعيننا تلك الدعوة لكانت الأمة العربية تقدت تقدما هائلا في مجال الفكر والثقافة بوجه عام وتحقق لها التنوير الذي لن يحدث إلا إذا اعتقدنا بأن الخير كل الخير في النظرة المتفتحة التي تقوم علي تقديس العقل وجعله معيارا لحياتنا الفكرية والاجتماعية.
الناشر:دار مصر المحروسة