المؤلف:غسان كنفاني
الناشر:دار المحبرة-فلسطين-1962
دار المدي للنشر والتوزيع
طبعة خاصة مجانية مع جريدة القاهرة-يناير2009
تشتهر مدينة يافا الفلسطينية بإنتاج أفضل وأشهر أنواع البرتقال في العالم, فقشرته غليظة سميكة,ويمكن لها أن تحفظ الثمرة جيدا مدة طويلة من الزمن,هكذا استغل غسان كنفاني رمزالبرتقالليصور كل ملامح الشخصية الفلسطينية,من خلال مجموعته القصصية أرض البرتقال الحزينوالتي صدرت أول مرة عام 1962,في فلسطين ,ثم أعادت دار المدي للنشر والتوزيع طباعتها في يناير هذا العام,وتم توزيعها مجانا مع جريدة القاهرة الأسبوعية.
وغسان كنفاني قاص وصحفي فلسطيني أغتاله الموساد الإسرائيلي في 8 يوليو عام 1972 عندما كان عمره 36 عاما,وكان عضوا للمكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين,وفي عام 1948,أجبر هو وعائلته علي النزوح,فعاش في سورية كلاجيء فلسطيني ثم انتقل إلي لبنان ومنها إلي الكويت,حيث انضم إلي حركة القوميين العرب,وقد كتب العديد من الأعمال الأدبية,أهمها:رجال في الشمسوأرض البرتقال الحزين.
الشخصية الفلسطينية..تجليات مختلفة
ربما تختلف مجموعةأرض البرتقال الحزينالقصصية في جوهرها عن أساليب الحكي التقليدية والتي اعتاد الأدباء وصفها باللحظة المختزلة التي تغوص في تأمل الشخصية الإنسانية..فأسلوب الحكي عند غسان كنفاني يكاد يكون تأريخا للحظات مشحونة بعذابات مروعة يعيشها الشعب الفلسطيني منذ حرب48,وهذه القصص لا تحمل فقط ذكريات الحرب الأليمة أو حكايات مجموعة من البشر التعساء الذين شردتهم الحرب,ولكنها تخليد لكفاح شعب يعرف كلمةوطنولكنه لا يعيش فيه.
تصور هذه المجموعة من القصص القصيرة ملامح من الشخصية الفلسطينية في تجلياتها المختلفة داخل الوطن السليب أو في الشتات الذي اضطر الفلسطينيون للرحيل إليه..تروي قصةأبعد من الحدودحكاية شاب فلسطيني سكب محتويات وعاء الحليب فوق رأس موظف إسرائيلي,وقال له إنه لا يريد أن يبيع وطنه,وبعد أن أمسكوه استطاع الهرب والقفز من نافذة القسم أثناء التحقيق,ولكن الكاتب يتخيل هذا الشاب يقفز مرة أخري من النافذة إلي بيت المحقق ليعبر عن نفسه لأنه لن يسمعه أحد.
أنا لست صوتا انتخابيا وأنا لست مواطنا بأي شكل من الأشكال ,أنا لست منحدرا من صلب دولة تسأل بين الفنية والأخري عن أخبار رعاياها..أنا ممنوع من حق الاحتجاج ومن حق الصراخ.فماذا ستربح من القبض علي؟لاشيء
والقصة تحمل إرهاصات الصراع النفسي الذي يختلج به قلب كل فلسطيني يعيش في وطن مهدد بين اللحظة والأخري بالقبض عليه بتهمة الخيانة أو التآمر أو حرز السلاح,وفي الوقت الذي يعتبر هذا الحيز المكاني ملكا له يفاجأ بأن الدول العظمي تقر بأن هذه الأرض ليست ملكا له فيقول في نفسهأية حياة هذه:الموت أفضل منهاولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرافلا بد أن يفكروا في أمر آخرويقصد كنفاني المقاومة,فهي الخيار الوحيد الذي تبقي للحفاظ علي الأرض الوطن.
أما قصةالأفق وراء البوابةتحمل العبوء السيكولوجي والكبت المشبع بالحزن العميق لبطل القصة الذي يقرر مغادرة يافا ويذهب إلي عكا,مصطحبا معه أخته دلال ليري الفتاة التي كانت أمه تزعم أن تخطبها له..وبعد أن غادر يافا انقطع الطريق واستحالت العودة.تتجسد مأساة البطل عندما يهجم الصهاينة علي غرفته ويفرغون بنادقهم في أخته أمام عينيه.يصور الكاتب الآلام النفسية المعذبة في أسلوب بلاغي عميق شديد الحساسية,فيقول:يعرف حين فقد أخته الميته,حين وضع جسدها المتصلب أحس بأنه فقد كل شيء :أرضه وأهله,ولم يعد يهمه أن يفقد حياته,ومن هنا مضي يضرب في الجبال,تاركا أرضه هاربا من القدر الذي لاحقه كالسوط,وهنا يبدو الكاتب واقعيا بعض الشيء ,فليس كل من تعرض لهذه الهزات النفسية العميقة يمكنه الصمود أمام العدوان,ففي بعض الأحيان تولد الحرب الشعور بالهزيمة والانسحاق والذل, وأخيرا الهروب من القدر الأسود.
حينما يناقش غسان كنفاني القضية الفلسطينية في كتاباته,لايهمه انتقاد الفكر الصهيوني,إنما يهمه المقاومة الشعبية نفسها,ولعل ذلك ما يجعله في كثير من القصص ينتقد الفلسطينيين وتصرفاتهم التي تبدو في بعض الأحيان تصرفات شرذمة من الغوغاء ففيالسلام المحرميتمكن أبا علي من سرقة بندقية جندي إسرائيلي ويهرب منها,وفجأة اعترض طريقه شبحان فوقف,وإذ برجلين فلسطينيين يجبرانه علي ترك البندقية لهما ويهداده بالقتل,ولا تنفع توسلات أبا علي لسوف نموت جميعا..أتركاني,ولكن تنتهي القصة بأن وطأة مهاجميه قد زادت حدة وعنفا وشراسة وأحس فيما كان علي وشك أن يبكي-بأن لا مناصالمأساة الحقيقية حينما يختفي الهدف الواحد ويذهب كل شخص للبحث عن الأهداف الشخصية,فيتحول النضال القومي إلي أعمال عنف أهلية.
ثلاث أوراق من فلسطين
يتجلي إبداع الكاتب الأدبي في رائعتهثلاث أوراق من فلسطينالتي تنقسم إلي ثلاثة أجزاء,الجزء الأولورقة من الرملة التي يصور فيها ذل سكان المناطق التي احتلها اليهود,حيث يصطف السكان علي طرفي الشارع,ويطلب الجنود منهم أن يرفعوا أيديهم متصالبة في الهواء تحت أشعة الشمس الحارقة,ويختارون من يروق لهم ليقتلوه ليكون عبرة للباقين.تبلغ المشاهد الدرامية ذروتها حينما تضرب الضابطة اليهودية بنتا صغيرة سمراء أمام والديها..تتكوم والدتها علي الأرض تبكي ,فيذهب ضابط آخر ليأمرها بالوقوف, ولكن العجوز لم تقف,فقد كانت يائسة إلي آخر حدود اليأس,فقتلت أيضا,يقرر الأب نسف نفسه حينما يدخل غرفة القائد ليعترف.
الجزء الثاني من القصة بعنوانورقة من الطبرةوهو هجوم شديد علي الإعلام والقيادة الفلسطينية يلخص فيها كنفاني من خبراته كشاهد عيان للحرب الأزمة الفلسطينية:أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين..كلام جرائد لاينفع يا بني,فهم أولئك الذين يكتبون في الجرائد-يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة,ثصم يكتبون عن فلسطين,وعن حرب فلسطين,وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها,ولو سمعوا إذن لهربوا إلي حيث لا أدري..فلسطين ضاعت لسبب بسيط جدا,كانوا يريدون منا-نحن الجنود-أن نتصرف علي طريقة واحدة أن ننهض إذا قالوا إن ننهض,وأن ننام إذا قالوا بم,وأن نتحمس ساعة يريدون منا أن نتحمس,وأن نهرب ساعة يريدون أن نهرب هكذا إلي أن وقعت المأساة..
يشن الكاتب حملة قوية ضد المسئولين الذين لم يحافظوا علي أبطالهم ولم يكونوا علي معرفة بأي أصول للمعارك..يتساءل الكاتب:ماذا حدث لأهالي الشهداء والقيادة في حيفا؟كيف تصرفت حتي تملأ المكان الذي خلفه الشهداء؟ألم تدب الفوضي إلي درجة مؤلمة؟..يحكي الكاتب عن المقاومة الشعبية التي أصبحت منفصلة تماما عن القيادة الفلسطينية ويهاجم صناع القرارالذين يقرأون ويكتبون ويرسمون خطوطا ملتوية ينظرون إليها باهتمامثم يدفع الجنود ثمن القرارات الخاطئة والخطط العشوائية غير المدروسة بدمائهم..لقد تحول تحول الجندي من رجل حرب قادر علي التدبير والمشاركة في صنع القرار إلي دمي تحركها القيادات العليا كيفما شاءت دون الانتباه إلي خبرات الجنود الحقيقية في أرض المعارك والاستفادة من خبراتهم.
الجزء الثالث والأخير بعنوانورقة من غزةيعكس فيها الكاتب ببراعة وصدق وشفافية مشاعر شاب عاش الهزيمة والتمزق والضياع في الوحدة الثقيلة,ويقرر أن يصنع نهاية لهذه الحياة البائسة,فيترك غزة ويمضي إلي كاليفورنيا إنني أكره غزة,ومن في غزة,كل شيء في البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض,نعم لقد كنت أرسل إلي أمي ولأرملة أخي وأولادها مبالغ ضئيلة تعينهم علي الحياة,لكني أيضا سأتحرر من هذا الخيط الأخير ,هناك في كاليفورنيا الخضراء البعيدة عن رائحة الهزيمة التي تركم أنفي..إن الشفقة التي تربطني بأولاد أخي وأمهم وأمي لا يمكن أن تشدني إلي تحت..أكثر مما شدتني..يجب أن أهرب لقد تركت الهزيمة مرارة وتجلطت المشاعر وتصلب القلب حتي لأقرب الأقربين,وكما زرعت الحرب في البعض بذار الكفاح والنضال,زرعت هذه الحرب نفسها القسوة والجمود.
غير أنه في نهاية الحكاية يرجع الشاب عن عزمه وتذوب القسوة المترسبة في أعماقه بعد أن رأي ابنة أخيه ناديةوساقها مبتورة..فقد فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها حول إخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب..كان يمكن للفتاة أن تنجو بنفسها وتهرب..أن تنقذ ساقها,لكنها لم تفعل والرسالة تبدو واضحة في النهايةلنتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلي الفخذ ما هي الحياة…وما قيمة الوجود.