تأليف:ملاك لوقا
الناشر:دار أنجيلوس
يا للعجب فقد شاءت القدرة أن يدخل القصر والحظيرة في صراع مرير ولم يمض وقت علي ذلك إلا وقت قصير,ثم كتب النصر للحظيرة علي القصر,هكذا كتب فندريك فان لون,متعجبا لأنه لم تجد أية عقيدة أو دين أرضا شاقة غير ممهدة مثلما وجدت المسيحية في بداية نشأتها,ولكن كيف اقتحمت الطريق؟!سؤال يجيب عليه الكاتب والصحفي ملاك لوقا في كتابهالعصر الذي ولد فيه المسيحخاصة وأن تابعي الناصري لم يحملوا قطعة من السلاح في عملهم الكرازي…ولم يدخلوا معركة واحدة حربية تحت راية الصليب لنشر رسالتهم.
يشير الكاتب ملاك لوقا في كتابه إلي أن أورشليم خضعت للحكم الروماني منذ عام63ق.م بعد أن دخلها القائدبومبيمنتصرا,وبذلك صار اليهود خاضعين سياسيا للرومان الوثنيين.وعينبومبي حاكما يهوديا علي البلاد تحت إشراف ممثل روما,فكان هذا عاملا قويا في إشعال رجاء اليهود في المسيا المخلص,ولكن بمفهوم مادي قادهم إلي التطلع لمنقذ سياسي يعيد مملكة داود علي مستوي مجد عالمي,لذلك لم يقبلوا المسيح إلها ومخلصا,لأنهم أرادوا زعيما يحررهم من الرومان,أرادوا مملكة أرضية والرب يسوع يشير إلي مملكة سماوية ليست من هذه الأرض.
عصر ودم دموع
يصف ملاك لوقا في كتابهالعصر الروماني الذي ولد فيه المسيحبأنه كان يتسم بالمظالم والقسوة والفساد إلي الدرجة التي جعلت جورج سارتن يكتب قائلا:لم يكن العصر الذي ولد فيه المسيح عصرا ذهبيا بل عصردم ودموع…عصر قسوة ووحشية…يكفي فقط أن تمر بأذهاننا وحشية وفظاعة ألعاب السيرك والساية البشعة التي تتجلي في العيون.هذا بالإضافة إلي انتشار البغاء والصلات غير الشرعية,لذلك علق المؤرخ الكبير وويل دورانت علي هذه الحالة الأخلاقية المتدهورة في قلب أماكن العبادة نفسها قائلا:إن الفضيلة كانت تتنحي عن مكانها خلال أبواب الهياكل نفسها.
وضح الكاتب أن المسيحية في بدايتها كانت تواجه الشر في أقصي مداه,لأن يسوع المسيح ولد في أيام هيرودس الملك,ذلك الذي لم يمر يوما واحدا دون أن يحكم فيه علي إنسان برئ بالإعلام إلي الدرجة التي جعلت المؤرخ اليهودي يوسيفوس يصفه قائلا:لم يكن ملكا بل كان أقصي العتاة الجبابرة الذين ارتقوا العرش…سفك دم كثيرين من الناس أما الذين بقوا علي قيدالحياة فقد كان حظهم أقصي…لأنه أغدق علي الأجانب الخيرات التي ابتزها من دماء الشعب…وكان من أثر هذا كله إن تدهور الأحوال الاقتصادية في البلاد…وفي سنوات قليلة عاني الشعب من الويلات والمحن أكثر مما عاناه أباؤهم منذ أن غادروا بابل وعادوا من السبي في عهد داريوس الملك.
المواجهة
عندما نشأت المسيحية كانت عليها مواجهة الوثنية العاتية الممثلة في الإمبراطورية الرومانية,حيث كانت العدو الأكبر الذي تصدي للمسيحية والتي ظهرت علي مسرح العالم بلا سند من قوة زمنية,كما كان هناك ارتباط وثيق بين الدين والدولة أما السيد المسيح فقد فصل الديانة,عن الحكومة,لأن الديانة لم تعد أرضية لذلك وضع يسوع المبدأ المعروفأعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله,وبذلك جاءت المسيحية لتعلن أن الديانة لم تعد الدولة…وأن طاعة قيصر لم تكن هي طاعة الله…بل أكثر من هذا علمت أن يطاع الله أكثر من الناس…ونتيجة للصراع المروع بين المسيحية ومعاصريها من الديانات الأخري يعلق القديس جوستين بعد أن اعتنق المسيحية قائلاإن الحكام يقيمون الدعوي علي المسيحيين لمجرد كونهم مسيحيين لا لاقترافهم ذنبا يعاقب علي القانون…وهذا ظلم صارخ.
خصوصة فكرية
يضيف ملاك لوقا في كتابه:أن اليونانيين في العصر الذي ولد فيه المسيح كانوا يتربعون علي قمة الفكر العالمي,فهم أساتذة الفلسفة في العالم التي قامت علي البرهان العقلي والترابط العلمي والتحليل المنطقي الذي لا يسلم بشئ قط قبل تحليله والبرهنة عليه والاقتناع به,لذلك معركة المسيحية معها لم تكن بسيطة فكان عليها إن تواجه عمالقة الفلسفة والفكر قبل انتشارها.ومن هنا ندرك أن المسيحية قبلها الناس عن اقتناع وليس عن قهر…بعد فحص وليس ودن قيد أو شرط…قبلها مجتمع يتوخي الدقة والتحليل والموضوعية وليس مجتمعا متخلفا فوضويا…وبذلك استطاعت المسيحية في مهدها أن تشق طريقها وسط خصوصة عقائدية وفكرية.
بين العثرة والجهالة
يشير الكاتب ملاك لوقا إلي القول الكتابي رسالة الصليب لليهود عثرة ولليونانيين جهالة(1كو1:23),وأرجع ذلك إلي أن حادثة الصلب في نظر اليهود تدحض أي ادعاء بأن يسوع هو ابن الله,بالرغم من وجود الإصحاح53من سفر إشعياء في أيديهم,ولكن صورة المسيح المتألم كانت بعيد كل البعد عن تصوراتهم وأحلامهم,هذا إلي جانب أنهم كانوا يبحثون عن الأدلة التي تبرهن علي القوة والجبروت أما السيد المسيح فكان شخصا وديعا ومتواضعا…يعيش بين الناس كمن يخدم وليس كزعيم وتنتهي حياته علي الصليب,لذا كان يستحيل بالنسبة لهم أن تكون هذه هي صورة الشخص المختار من الله.
أما بالنسبة إلي اليونانيين فكان الصليب جهالة,لأنهم كانوا يعتقدون أن الله لابد أن يكون غير قادر علي الإحساس بأي شعور حتي لا يخضع لتأثير أي شخص أو أي شئ,لذلك كانت فكرة الإله المتألم بالنسبة لهم تحتمل تمتقضا مع الصفات الإلهية,لذلك اعتبروا تجسد الإله أمرا مستحيلا تماما حتي أنسلسوس هاجم المسيحية بشدة قائلاإن الله صالح وجميل وسعيد…وهو يوجد في كل ما هو أجمل وأفضل…فإذا قيل عنه إنه تجسد فهذا يعني تغير من الأرقي إلي الأدني…من السعادة إلي التعاسة…والله لا يمكن أن يقبل مثل هذا التغيير.
أبواب الجحيم لن تقوي عليها
وفي النهاية يعلن الكاتب أن صدور قانون روماني بتحريم المسيحية في كافة أنحاء الإمبراطورية لم يمنعها من ظهورها كقوة هائلة تجذب الناس بالمئات والألوف,وفي هذا الصدد كتب المؤرخ الكبيرشافقائلا:نحن لا نعرف ديانة أخري استطاعت أن تصمد لفترة طويلة…قرابة ثلاثة قرون في مقاومة متصلة من التصعب اليهودي…والفلسفة اليونانية…والسياسية الرومانية.
فالمسيحية ظهرت علي مسرح الحياة تدعو إلي حياة جديدة روحية متميزة عن الحياة الفكرية والأدبية بكونها حياة القداسة والسلام وحياة الشركة مع الله والاتحاد به…إنها حياة خالدة تبدأ بتجديد القلب وتصل إلي ذروتها في القيامة…فصاحب الصليب بني مملكته علي أساس السلام وبعث تلاميذه ليبشروا الناس بالخير وأسس كنيسته العجيبة الكائنة إلي أقاصي المسكونة متسامية فوق الحواجز الطبيعية والسياسية والبشرية..هذه الكنيسة التي عمرت حتي الآن ما يقرب من ألفي عام دون أن تشيخ بل يتجدد شبابها بانضمام الكثيرين إليها..هذه الكنيسة التي لا تستند إلي ذراع بشرية تحميها وتزود عنها,بل إلي ذراع مؤسسها وراعيها الذي وعد بأن أبواب الجحيم لن تقوي عليها.