في نهاية شهر يناير الماضي أرسلت مؤسسات ومراكز ثقافية في الخرطوم, فيها اتحاد الكتاب السودانيين,رسالة إلي الأكاديمية السويدية ترشح منها الطيب صالح لنيل جائزة نوبل في الأدب…ولكن بعدها ببضعة أيام فوجئنا بوفاة هذا الروائي المبدع والمفكر المستنير بعد صراع طويل مع المرض في لندن عن عمر يناهز الثمانين عاما.
عالج الطيب صالح في كتاباته,وبالأخص رواياته كثيرا من القضايا المتعلقة بالأزمة الحضارية بين الشرق والغرب والاستعمار وقد كتب العديد من الروايات التي ترجمت إلي أكثر من 30لغة. والمتأمل في أهم أعماله الروائية,وهي بترتيب صدورها: عرس الزين (1962),موسم الهجرة إلي الشمال (1971),بندر شاه بجزأيه ضو البيت ومريود,يجد شخصياته تنمو وتتجدد وفقا لمتغيرات ومقتضيات الزمان والمكان.
موسم الهجرة إلي الشمال
نالت روايته موسم الهجرة إلي الشمال شهرتها من كونها أولي الروايات التي تناولت بشكل فني راق الصدام بين الحضارات وموقف إنسان العالم النامي ورؤيته للعالم المتقدم. هذان العالمان المتمايزان يثير الروائي من خلالهما عددا من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية والنفسية توحي بأزمة الصراع المكثف بين الشرق والغرب وصورها,من خلال علاقة الرجل الشرقي بالمرأة الغربية. فالمرأة في موسم الهجرة إلي الشمال ضحية الرجل بينما يصبح الرجل أيضا ضحية لظروف مجتمعية. وعلاقة مصطفي سعيد البطل بالأنثي هي دائما علاقة آخرها موت مدمر,إذ أن الرجل الشرقي ينتقم في شخص الأنثي الغربية لسنوات الذل والقهر والاستعمار لينتهي بها الأمر إلي الانتحار,وقد صنفت هذه الرواية تحديدا ضمن أفضل مائة رواية في القرن العشرين.
والطيب صالح له سمة مشتركة في كتاباته الروائية ألا وهي سبر أغوار النفس البشرية والغوص في أعماقها بحرفية عالية,وهو في كل ذلك يعبر عن قدر وافر من التجارب احتضنها وتأملها واستكشف معانيها وصاغها عملا جديدا مبدعا خلاقا فيه ملامح الواقع لكنه ليس الواقع,الذي يمكن أن تنقله آلة التصوير الصماء بأي حال من الأحوال,إنه واقع أرحب وأعمق وأكثر تعبيرا.
يبرز إلي موقع الصدارة أثر البيئة السودانية الريفية في أدبيات الطيب صالح. ولعل ذلك لتعلقه بالذكريات الدافئة الحميمة التي التصقت بذاكرته سنوات طفولته وصباه المبكر الذي نعم فيه بالحياة في قريته كرمكول الوادعة الهانئة بين أترابه وأحبائه,ثم غربته لسنوات طوال في دول الخليج وباريس وبريطانيا التي عمقت في ذاته الالتصاق ببيئته وكثفت اعتزازه بها لانتمائه الصادق لها ولما رأي من تناقضات لا تمثل طبعه وذوقه في بيئات أخري,مما جعل كثيرا من النقاد يطلقون عليه ذاكرة السودان النابضة.
عرس زين
تتجلي هذه الذاكرة السودانية النابضة -كما ذكرنا- في عرس زين وهي من أجمل رواياته التي يتجلي فيها أسلوبه الشعري الشجي وتدور حول شخصية الزين الذي يعيش في قرية سودانية,وهو شاب من الدراويش وينوي الزواج من ابنة عمه نعمة,هناك تفاوت الشخصيتين حيث القبح والجمال,كان وجه الزين مستطيلا,نانئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين وجبهته بارزة مستديرة,عيناه محمرتان دائما,محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه,ولم يكن علي وجهه شعر إطلاقا,ولم تكن له حواجب ولا أجفان,أما هي ففتاة حلوة قوية الشخصية, متعلمة, ويعرف إخوتها أن هذه الفتاة الغاضبة العينين الوقورة المحيا تضم صدرها علي أمر تخفيه عنهم. لقد رفضت الكثيرين ممن تقدموا لها بطلب يدها.
إن غرابة شخصية الزين هي التي جعلت من هذا الزواج حدثا,فتارة نراه درويشا ظريفا مهملا في مظهره وتارة نراه يتتبع الحسان مثل علوية ثم عزة ثم حليمة وهو لا يحب إلا أروع الفتيات جمالا وأحسنهن أدبا,وقد أصبح الزين معروفا في القرية بذوقه في الاختيار فإذا أشار إلي واحدة وذكرها,فسرعان ما يتقدم لها شاب ويتزوجها,وهكذا أصبح ضيفا معززا في البيوت تستقبله النساء حتي يشتهر أمرهن,وهو رسول الحب الذي ينقل عطره من مكان إلي آخر,تتجلي في شخصية الزين مظاهر العبث,فمرة يهمز امرأة في وسطها,ومرة يقرص أخري في فخذها والأطفال يضحكون والنساء يتصارخن ولكن صوته الضاحك يعلو الأصوات جميعا.
غير أن وقت الزين لا يمضي كله في الأعراس والمآدب ومعابثة النساء,بل له صداقات أبرزها علاقته مع الحنين -الرجل الصوفي المنقطع للعبادة. وهو يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم ثم يحمل أبريقه ومصلاته ويضرب مصعدا في الصحراء.
الحنين هو الخلفية الميتافيزيقية للأحداث,وكان الحنين قد قال أمام جمهور القرية الزين مبروك…باكر بعرس أحسن بنت في القرية. وكانت نعمة الفتاة الوحيدة التي يوقرها الزين فلا يتحدث معها ولا يعابثها,يفر من بين يديها ويترك لها الطريق وحين يخطر الزين علي بال نعمة تشعر بإحساس دافئ في قلبها من فصيلة الشعور الذي تشعر به الأم نحو أبنائها ويمتزج هذا الإحساس بشعور آخر بالشفقة.يخطر الزين علي بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلي الرعاية.
إنه ابن عمها علي أية حال من الأحوال وما شفقتها شئ غريب,أما كيف تم الزواج فيقول الذين: جاءتني الصباح بدري في بيتنا,وقالت لي قدام أمي: يوم
الخميس يعقدوا لك علي أنا وأنت راجل ومرة.نسكن سوا ونعيش سوا,فنعمة أصبحت رمزا للفتاة التي تمردت علي عرف المجتمع وعاداته ,فهي التي خرجت عن المألوف وقررت زواجها من الزين الذي كان مضحكة في نظر الناس…نعمة دقت طبول الحرب علي المجتمع المحافظ كاسرة كل حواجز والتردد.
الكاتب أراد أن يعبر من خلال القرية عن السودان بقبائلها المتنافرة وطبقاتها المتصارعة,وكأنه يقول إنه لا سبيل إلا المصالحة.فهذه السودان تضم الزين(معني الجمال) ونعمة هي(البركة)والحنين (الرمز الصوفي)وهي جميعا تعني الخير.وقد يكون الرمز يتجه بشكل آخر:فالزين هو الإنسان ونعمة هي الطبيعة المرئية والحنين هوالفكر الصوفي السائد في السودان.فهذه الرواية بهذا المنظور تشير إلي اندفاع الإنسان بواسطة الطبيعة للتوحد مع القوي الكونية وما وراء هذه القوي-الله.
دومة ود حامد
والقدرة الإبداعية علي تجسيد الحياة الشعبية السودانية نجدها متجلية أيضا فيدومة ود حامدوالتي يتداول فيها المؤلف مشكلة الفقر واستغلال الإقطاعيين الذين لا يهمهم سوي زيادة أموالهم دون رحمة,ومن خلال تلك الدومة وما يدور خلفها وحولها وتحت ظلها من أحداث تتداخل,تظهر طقوس المجتمع الأفريقي والسوداني علي وجه الخصوص.
رسالة الكاتب في هذه الرواية أنه يدعو إلي الحياة الإنسانية الصافية المبنية علي الروحانية والمبادئ والقيم,هذه الحياة الدافئة التي افتقدها المؤلف عندما عاش في صقيع الشمال,فهنا يتضامن أهل القرية وإن اختلفوا…يتآخون وإن تعادوا…ينسون خلافاتهم أمام المصلحة العامة والموقف الإنساني المشترك…
منسي: إنسان نادر علي طريقته
إن أعمال الطيب صالح تعج بفيض زاخر من الأفكار والأطروحات المبتكرة المتجددة المنسوجة من تراب الأرض وعرق البشر لتبقي تلك الشخصيات شديدة الالتصاق بالواقع,ويتجلي ذلك في آخر أعماله بعنوانمنسي:إنسان نادر علي طريقتهوهي سيرة مزدوجة-ذاتية وغيرية-يتذكر فيها الطيب صالح زمنه الجميل عندما كان يعمل في إذاعة لندن في مطلع الخمسينيات قبل أن ينتقل إلي العمل في منظمة اليونسكو وتستعين به قطر لتأسيس بنيتها الإعلامية,ثم يعود كالطائر الغريب إلي عشه الأول الإنجليزي.
وهو يدير ذكرياته في هذه السيرة حول تجربته مع صديقه المنسي في إيقاع يحافظ علي التشويق ويستخدم بعض جماليات السرد,فهو يبدأ من النهاية ويعود لاسترجاع المواقف السابقة معتمدا علي حلاوة الحكي المسترسل ولنقرأ تقديمه الطريف لهذا النموذج المصري في مستهل عمله:في مثل هذا الوقت من العام الماضي توفي رجل لم يكن مهما بموازين الدنيا,ولكنه كان مهما في عرف ناس قليلين مثلي,قبلوه علي عواهنه,وأحبوه علي علاته.رجل قطع رحلة الحياة القصيية وثبا,وشغل مساحة أكبر مما كان متاحا له وأحدث في الحياة التي تحرك فيها ضوضاء عظيمة.
هذا هو المنسي,ولكنه يبقي الطيب صالح بأعماله غير منس, رائدا لأجيال أدبية تستطيع هي الأخري أن تصنع ضوضاء عظيمةوأعمالا بارزة شديدة الحساسية في المشهد الإبداعي العربي.