قصة الحب بين شهرزاد وشهريار واحدة من أغرب قصص الحب التي عرفها العالم وحتي بين الأساطير,وقد تأثر الكاتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بحواديتألف ليلة وليلةوأبي أن يكتب مثل بعض الكتاب الآخرين نفس الفكرة,فقد تناولها هؤلاء الكتاب بنفس الطريقة التي تعتمد علي سرد حكاية مطولة تنتهي عند الليلة الألف,ومهما اختلفت تلك الروايات فهي تبدأ نفس البداية وتنتهي بنفس النهاية.أما كاتبنا العبقري طه حسين فقد فرض علي العالم سؤالا منطقيا: ماذا بعد الليلة الألف؟هل تم ترويض هذا السفاح الذي قتل عشرات النساء بغية الانتقام من زوجته الخائنة؟أم أنه عاد إلي حالته المرضية مرة أخري؟
شهريار..إنسان جديد
لقد صور طه حسين من خلال روايتهأحلام شهرزادمرحلة جديدة من حياة شهريار الذي هدأت نفسه ومال قلبه إلي شهرزاد ,ورغم أن الأفكار الدموية كانت تخطر بباله من حين إلي آخر,إلا أن شهرزاد كانت أستحوذت علي عقله وقلبه حتي أصبح لا يطيق فراقها,واختفت في هذه الرواية شخصية السياف تماما,ففي هذه المرحلة الجديدة ما بعد الألف ليلة كان من المحال أن يتم تهديد شهرزاد بقطع رأسها بعد أن أصبحت سيدة القصر بكل ما تعني الكلمة,فهي صاحبة الأمر والنهي,وهي صاحبة الأفكار الجديدة,ومدبرة الأوقات السعيدة الحالمة.ونجحت في ترويضه تمامافلم يكن شهريار كعهد الناس به حين كانت تقص عليه أحاديث ألف ليلة وليلة ثائر النفس جامح الشهوة شيء الظن بالمرأة,وإنما كان رجلا آخر أعادت شهرزاد تشكيله من جديد!.
حديث النائمة:
ولكن لم يكن من السهل علي شهريار أن يحرم من الحكي الجميل الذي استمتع به ألف ليلة وليلة,ولم يكن من السهل أن يقضي الليل وحده دون أن يسمع صوتها العذب.وكان الواقع من شهريار أن نفسه لم تسل عن قصص شهر زاد…بل كانت تتحرق شوقا إليه.ففي الليلة التاسعة بعد الألف طار النوم من عيني الملك ودخل إلي غرفة الملكة فوجدها مستغرقة في النوم,ومع ذلك جاءه الصوت الذي كان يتوق إليه قائلا:بلغني أيها الملك السعيد أن طهمان بن زهمان ملك الجن في حضرموت كانت له فتاة حسناء رائعة الحسن بارعة الجمال….كانت هذه قصة جديدة تحكيها شهر زاد وهي نائمة غير مدركة لوجوده بجوارها علي الإطلاق,ففي هذه المرة أقصوصتها تكاد تكون حلما من أحلامها اللذيذة,وكان لشهريار نصيب في الاستمتاع بهذه الأحلام الشيقة,ولكن حكاياتها لم تطل هذه المرة فقد بدأت في الليلة التاسعة بعد الألف وانتهت في الليلة الرابعة عشرة بعد الألف.
خواطر وحوارات
وفي كل ليلة يتسلل الملك في نفس الموعد ويجلس بجوار الملكة وهي نائمة علي فراشها مستغرقة في النوم تماما.ولكنها تبدأ حكايتها في كل مرة قائلة:بلغني أيها الملك السعيد…..ثم يعود الملك إلي حجرته يتأمل شخصية شهرزاد ويتساءل في نفسه إذا كانت مخلصة له بالفعل أم لا,وإذا كانت قد أحبته كما أحبها. أفنراها قد وصلت إلي دخيلة نفسه ووقفت علي جلية أمره وعرفت أنه مريض حقا وأشفقت عليه من هذا المرض,فهي تريد أن تبره وترفق به وتطب لعلته حتي يبرأ؟وهو علي ذلك ناعم بعشرتها سعيد بما لا تحمله عليه من الرضا والسخط,ومن اللذة والألم ومن النعيم والبؤس. ثم يصل إلي مرحلة من الخضوع والاستكانة معتبرا نفسه طفلا خاضعا لسلطان أمه الحنون مطيعا لها واجدا في ذلك اللذة كل اللذة,والنعيم كل النعيم.
وزادت الألفة بين الزوجين ودارت بينهما حوارات ساخنة هادئة بينما شعر كل من حولهما بالاستغراب والدهشة من تلك المبارزات الكلامية التي كانت تشكل لحنا غريبا علي أجواء القصر لم يستوعبهأحد سواهما .
أنا شهرزاد
وكان الملك يعبر عن حيرته من شهرزاد فيسألها كثيرا:من أنت؟فتجيبه تارةأنا شهرزاد التي أمتعتك بقصصها أعواما لأنها كانت خائفة منك والتي تمتعك بحبها الآن لأنها واثقة بك مطمئنة إليكوعندما يسألها مرة أخري: من أنت؟ تجيبهأنا شهرزاد التي أحبتك من قبل أن تعرفك كما لم تحب فتاة رجلا قط,والتي زفت إليك تتحدي الموت وتتحدي السلطان وتتحدي الحب والبغض جميعا,فبلغت من نفسك هذه المنزلة التي تراها أو التي لا تراها…أنا أمك حين تحتاج إلي حنان الأم,وأنا أختك حين تحتاج إلي مودة الأخت وأنا ابنتك حين تحتاج إلي بر البنت وأنا زوجتك حين تحتاج إلي عطف الزوج وأنا خليلتك حين تحتاج إلي مرح الخليلة,وأنا كل هذا……
لعبة المفاجآت
ولكن لكي يستمر الحب فهو يحتاج إلي مفاجآت ,فهذا الملك كان كالتلميذ الصغير الذي يحتاج إلي معلمة تحفزه علي الاجتهاد في المذاكرة والبحث من خلال الوعود بمفاجآت سارة مبهرة ,فذات مرة تبعته وهو يطوف في حديقة القصر تائها بين خواطره حتي استقر في ركن بعيد,فجاءته لتخفف عنه وحدته وتنقذه من حيرته بحديثها العذب وحنانها حتي اقترب موعد مغيب الشمس وأعطت إشارة للخدم فأحضروا أطيب أنواع الطعام,وفي مرة أخري أعطت إشارة للخدم فتحولت إحدي حجرات القصر إلي ساحة واسعة متصلة بالبحيرة وظهر فريق من الفتيان والفتيات يرقصون علي أنغام ساحرة لم يعرف الملك مصدرها.
ثم يجد الملك نفسه مع شهرزاد في زورق يسبح في جو أسطوري وسط الماء والضوء والغناء إلي أن يغلبه النوم,ثم يأتي إليه طائفه ليوقظة فيستمع إلي مليكته النائمة الحالمة وهي تستكمل قصتها ويستيقظ في الصباح الباكر ليجد نفسه أمام حبيبته فيحتضنها ويتبادلان القبلات بينما ينساب الزورق داخل نهر ضيق ليصل إلي جزيرة مليئة بالأشجار والأزهار الجميلة فيدخلها العاشقان وبعد أن تزول دهشة الملك وانبهاره تحدث مفاجآت غريبة جدا,ولعل شهرزاد كانت تعد لهذا اليوم كثيرا.فقد بدأ الظلام يخيم علي المكان وظهرت أمام الملك كائنات ضخمة عملاقة تصل بين الأرض والسماء تشبه الطيور وتصدر أصواتا حزينة كئيبة كأصواتالصريع المحتضرفسيطر علي الملك شعور بالغم والكآبة وسأل شهر زاد من هذه الكائنات؟
فقالت له:انظر يا مولاي هؤلاء ضحاياك هذه الكائنات التي تشبه الطير وما هي بالطير…أتعرفها ؟إنها نفوس أولئك الفتيات اللاتي أرسلتهن إلي الموت منذ ثرت ثورتك المنكرة بالنساء,فاتخذتهن أداة للهوك ووسيلة إلي إرضاء ما أفسد قلبك من غضب وما أفسد نفسك من انتقام…إن هذه الأصوات التي تسمعها تنطق بالبؤس واليأس والشكاة منذ أن أرسلتها إلي هذا المكان حتي تؤدي بها حسابا يوما ما,فاذرف ما تستطيع أن تذرف من دموع…وتجرع ما تستطيع أن تتجرع من ندم…فلن تغسل قطرة من تلك الدماء ولن تمحو سيئة من هذه السيئات إلا أن يمسك جناح من رحمة الله وينالك فضل من عفوه.
ثم يرق صوت شهرزاد وإذا هي تقول له:ومع ذلك بل من أجل ذلك أحببتك أيها الملك وتحديت عندك الحب والملك والموت جميعا.
وكانت شهرزاد صادقة ومخلصة للملك..لقد نجحت في علاجه وتهذيبه وقادته لتطهير نفسه,ثم أعادته إلي رشده ليتولي شئون ملكه ويرعي شعبه من جديد.
الداء والدواء:
وإذا كانت المرأة الخائنة هي التي أصابت شهريار بمس من الجنون وتحول إلي سفاح راح ضحيته عشرات النساء…فإن شهر زاد كانت مثلا حيا يؤكد القول الشهير فداوني بالتي هي الداءكان لابد أن تأتي امرأة جديدة لتكون بمثابة إكسير لم الكراهية الذي سري في دمه ,وكانت شهرزاد هي هذا الإكسير العجيب,فبدأت علاجها بالمسكنات والمضادات الحيوية علي مدي ألف ليلة وليلة,ثم بدأت بعدها تستكمل مهمتها كطبيبة تراقب المريض في فترة نقاهة قصيرة لم تزد علي أربعة عشر يوما…
تري هل يحتاج كل رجل مر بتجربة أليمة أفقدته توازنه إلي شهرزاد لتبدأ معه رحلة الألف ليلة وليلة….؟
المؤلف:الدكتور طه حسين
الناشر:دار المعارف-العدد الأول
من سلسلة اقرأ-1943
دار المدي للنشر والتوزيع-طبعة
خاصة مجانية مع جريدة القاهرة-أبريل 2008