تأليف:عبد الرحمن أبو عوف
الناشر:الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008
حقا يجب أن أؤمن بالفن..الإيمان بالفن هو التعويذة التي تفتح الطريق..إني أؤمن بإله الفن أبو للوالذي عفرت جبيني أعواما في تراب هيكله!إنه ليعلم كم جاهدت من أجله,وكم كافحت وناضلت وكدرت!بأسمه أخوض المعركة الكبري,وأنازل كل المجتمع,وكل حياة,وكل عقبة تحول بيني وبين فني الذي منحته زهرة أيامي التي لن تعود هكذا آمن توفيق الحكيم ..بأهمية الفن ذلك الإيمان الذي جعل الكاتب عبد الرحمن أبو عوف يكرس حياته من أجل رصد وتحليل مسار إبداع بعض من رموز كتاب القصة القصيرة والرواية والثقافة والفن التشكيلي حيث يعرض في كتابهبانوراما نقدية في الأدب والفن والسياسةخلاصة جهد نقدي في آفاق الأدب والنقد والفن والثقافة والسياسة علي مدي خمسين عاما هو عمر هذا القلم القابع في يده منذ منتصف الستينيات وحتي الآن,حيث شكل هذا القلم أكثر من كتاب ومرجع في القصة القصيرة والرواية والنقد والسيرة والترجمة,كما قدم مانفستو نقديا لجيل الستينيات ليطرح منهجا نقديا ثقافيا هو ثمرة تفاعل العلاقة بين الثورة الوطنية الديموقراطية وتحولاتها وقضايا الأدب والثقافة والفن بداية من ثورة عرابي عام 1882 مرورا بثورة 1919 إنتهاء بثورة 1952 في صعودها وانكسارها.
ندعوكم إلي التجوال معي عبر الأقسام السبعة لكتاببانوراما نقدية في الأدب والفن والسياسةلنلتقط أول صورة حزينة مثقلة بالرثاء والتي رسمها يحيي حقي بأسلوبه المركز والساخر بمرارة,والتي جسد فيها مشهد جنازة أحمد خيري سعيد ناظر المدرسة الحديثة والمؤسس لتيار القصة القصيرة المصرية ومؤسس صحيفة الفجرورئيس تحريرها والتي علي صفحاتها قدمت ترجمات ودراسات عن القصة القصيرة العالمية بجانب نشر إبداع رموز ورواد القصة القصيرة المصرية وأبرزهم محمود تيمور ,طاهر لاشين,عيسي عبيد,يحيي حقي,…إلخ,كما أن اندلاع الثورة الشعبية الوطنية عام 1919 بزعامة سعد زغلول أدي إلي صعود الوجدان الشعبي الذي نجد له انعكاسات خلاقة في كل مجالات الفكر والثقافة والفنون المصرية,حيث عبرت قصص تيمور,ولاشين,ويحيي حقي,عن طبيعة الحياة المصرية بذكاء وسخرية وعذوبة ووعي نابع من إدراكهم الأبعاد السياسية والتاريخية لمرحلتهم وقدراتهم علي فهم فنية القصة القصيرة وإطلاعهم علي مدارسها في الأدب الفرنسي والإنجليزي والروسي.
ويذكرالكاتب أن المدينة البرجوازية في مصر بدأت تتحدد سماتها وتتناقض في نظرتها وقيمها وسلوكها مع الطبيعة الريفية الساكنة,حيث إن عملية نهوض البرجوازية المصرية قبل وبعد الحرب العالمية الأولي صاحبها ازدهار فكري وعلمي ساعد علي عمق النظرة إلي الحياة وطبيعتها وتبلور كل ذلك في تماسك ونضج شكل القصة القصيرة حيث تخلصت من الأسلوب الزخرفي الفضفاض واقتربت من الأسلوب العلمي المحدد المركز ولإدراكها تعقد وسيلة تغير لحظات الحياة لم تعد تلح في التعبير عنها علي وحدات البداية والوسط والنهاية..إن ظلالموباسانوتشيخوفكانت لها السطوة علي رؤية القصة لدي أبناء هذه المدرسة حيث بلغ المد الثوري قمته في عام 1946 عندما بدأ دور الطبقة العاملة المصرية يفرض وجودا أكثر علي تشكيل اللوحة الاجتماعية وانعكست هذه المرحلة في وجدان كتاب القصة القصيرة بمستويات متباينة بين الوعي والقدرة الفنية.
الخطاب الروائي..والتصدي لقهر الدولة
ويلقي الكاتب نظرة شاملة علي الخطاب الروائي المصري في السنوات العشرين الأخيرة والذي ساهم في بنائه أبرز كتاب جيل الستينيات والسبعينيات والذين قدموا شهادة وجدانية لصعود وانكسار ثورة يوليو 1952,وتعد رواية جيلي الستينيات والسبعينيات أصدق من كل كتابات المفكرين والمؤرخين السياسيين الذين ناقشوا أبعاد هذه الثورة وتناقضاتها, وتقلباتها لأنها تمتلك حس وضمير ووجدان معاناة جيل مناضل بشجاعته,عاش أحلام شعبه ومأساته في نفس الزمن لذلك هي شهادة علي واقع سياسي واجتماعي وأخلاقي متدن وممزق ,يشير إلي أن أبرز الروايات التي تم تحليلها وتقييمها في هذا الكتاب لاتقدم إجابات جاهزة عن جدل العملية الاجتماعية ومستقبلها ,بل تقدم أسئلة عن المصير المأساوي الذي نعيشه الآن ,كما أنها تجسد تآكل واقعنا وحياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاخلاقية التي حاصرتها مخططات تدميرية سرطانية داخلية وخارجية أدت إلي مأساة مازالت أحداثها تتداعي حتي اليوم,لذلك يعد أخطر ما في الخطاب الروائي الجديد هو تحليل وتعرية واقعنا السياسي والاخلاقي والتصدي للقهر الذي تمارسه سلطة الدولة والدين والجنس والمفاهيم السلفية العتيقة وكهنوت اللغة المقدسة.
ويري الكاتب أن دراسته لجدلية العلاقة بين رواية جيلي الستينيات والسبعينيات وثورة يوليو 1952 اقتضت قراءة تطور الحركة الوطنية وتصاعدها وانتكاساتها منذ ثورة عرابي 1881 مرورا بثورة 1919 وانتهاء بثورة 1952,حيث إن كل هذه الإرهاصات التي حدثت في أواخر الأربعينيات كانت مقدمات طبيعية لتدخل العسكريين في ثورة 1952 ,وقد اعتمد في ذلك علي كتابات محمد مندور,ولويس عوض كثيرا بجانب دراسة البيئة الاجتماعية والاقتصادية للطبقة المتوسطة التي قادت كل هذه الثورات,وما يمهد لهذه الدراسات هو رصد التحولات في الأسلوب التعبيري للبناء الروائي عند جيلي الستينيات والسبعينيات,حيث التخلص من الحدوتة والبداية والنهاية والعقدة والحبكة والوصف التقليدي الرومانسي,واتباع نماذج للزمن الرأسمالي لمحاولة تصوير توترات الحاضر.
تأسيس الفكر العقلاني المصري
ويخبرنا الكاتب بأن المثقفين كانوا دائما في طليعة وقيادة الثورات الوطنية وأول شهدائها وضحاياها بالنفي والسجن والتشريد,فقد أسسوا بنضالهم المجيد تراثا وطنيا ديموقراطيا في بنية ونسق ومسار الحركة الوطنية المصرية مازال هو المرجعية لنضال الأجيال الجديدة من المثقفين وقبل أن نناقش علاقة المثقفين المصريين بثورة 1952 في صعودها بقيادة عبد الناصر وانكسارها في نكسة 1967 دعونا نلقي الضوء علي عيوب وسلبيات قاتلة في تركيب هيكل أبرز الأحزاب المعارضةالوفد والتجمع والعملحيث غابت عن بنائها وسلوكيات عملها الديموقراطية,ومن الغريب أن هذه الأحزاب التي تنتقد عدم تداول السلطة تمارس هي عبر رئاستها أقصي أنواع التسلط والهيمنة علي أحزابها ,فهم رؤساء مدي الحياة,وهذا أكبر دليل علي مشاكل المفهوم الديموقراطي السائد الآن,والذي أدي إلي ركود الحياة السياسية وضعف فاعليتها وشفافيتها,وفتح الطريق للقوي الوصولية والانتهازية وأصحاب الثروة والنفوذ للهيمنة علي مؤسسات الدولة السياسية والإعلامية والاقتصادية ,كذلك ساعد علي ظهور تيارات العنف والتطرف مما يهدد أساس وقيم المجتمع المدني.
وينوه الكاتب عن أن كتابالشعر الجاهليللدكتور طه حسين من ثمار النهضة الوطنية وصعود المرحلة الليبرالية وتأسيس الفكر العقلاني المصري حيث يضع العقل كل المحرمات الفكرية والدينية والتراثية موضع المساءلة والنقد مستخدما منهج الشك الديكارتي العقلاني في المسلمات الموروثة وفتح بذلك الطريق إلي البحث العلمي في الأدب والعلوم الإنسانية,مما أدي إلي ما نتمتع به الآن من تقدم وعقلانية في الدراسات الأدبية والإنسانية ,ورغم ثورة السلفيين ضد طه حسين وتكفيره إلا أن الدستور قد صان وحمي حرية الرأي والتعبير,حيث قامت النيابة بإصدار قرار تاريخي وهو حفظ القضية وتبرئة طه حسين,حقا كانت هموم وطموحات هذا الجيل الليبرالي تدور حول نهضة مصر القومية والسعي نحو استيعاب منجزات الحضارة الأوربية الحديثة,وكذلك تأسيس فكر وإبداع مصري له خصوصيته وسماته الحضارية المتصلة عبر تراكم الحضارة الفرعونية والهيلينية والقبطية والإسلامية,وأبسط تلخيص لإنجازات هذا الجيل ما تم تحقيقه علي يد كل من طه حسين,والعقاد,والمازني,هذا إلي جانب الإبداع الروائي والمسرحي عند توفيق الحكيم والموسيقي المعبرة عن الشخصية المصرية عند سيد درويش,والنحت الذي يعيد بعث النحت المصري القديم عند محمود مختار,هذا بالإضافة إلي الكثيرين.
المسرح ..وأفق الحرية
يتأسف الكاتب علي المأساة التي تحدث كل يوم لمن يذهب إلي المسرح المصري أملا في الاستمتاع بلحظة من لحظات الجمال والعظمة والجدية في حياته اليومية المتواضعة ,غير أنه يخيب ظنه حيث لايجد غير المدعينالذين يقدمون التسلية الرخيصة الفاضحة,لذلك يعد المسرح التجاري المتهم الأول بقتل الذوق العام المسرحي عندنا,وهو الذي أبعد بكل وقاحة فناني المسرح المصري الذين أسسوا نهضة مسرحنا في الستينيات وقدموا بدايات فكرية وجمالية طموحة اغتيلت لأكثر من سبب سياسي واجتماعي وكان واحد من هؤلاء الفنانسعد أردشالذي أسس مع بعض زملائه المسرح الحر عام 1952 ,ثم قام بتأسيس مسرح الجيب عام 1962 والذي أطلت منه الحركة المسرحية علي التيارات المعاصرة في المسرح العالمي,غير أن العمل الجوهري لسعد أردش كان تقديم مسرحبريختبكل تعقيداته وبساطته من خلال رؤيته المسرحية المبنية علي نظرته ولغته وتفسيره المتميز,هذا بجانب تقديم أعمال مصرية لسعد الدين وهبة,ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي,وتوفيق الحكيم والفريد فرج,ومحمود دياب,حيث توج كل ذلك بمسرحيةالمخططينليوسف إدريس والتي اعتقلت حتي الآن وأبعدت بتعسف غريب عن جمهورها .
ويوضح الكاتب أن المسرح منذ اليونان يعرف بأنه اجتماع جماهيري وسياسي وفني وفكري وهو لاينبت ويزدهر إلا في أفق ومناخ الحرية ومعارك الرأي العام واحترام تعدد وجهات النظر,إن سقوط المسرح المصري وانتشار أعمال مسطحة في مسرح النجم الواحد والتهريج والضحك من أجل الضحك إنما يعكس تدني مستوي تملك الثروة والسلطة ,وفي هذا الجو تغتال أعمال جادة ومبتكرة ذات أسلوب وتعبير درامي جديد واع بجوهر الأزمات العديدة,لذلك تسعي الأعمال الجادة جاهدة وسط هذا التدني أن تغير وتناقش طموحات الشخصية المصرية ومن أمثال هؤلاء أبو العلا السلاموني,ومحفوظ عبد الرحمن,وبهيج إسماعيل الذي يمثل تيارا متميزا في الجيل الثالث من كتاب المسرح المصري بعد رحيل جيل الرواد,فنراه يلجأ إلي الأجواء الأسطورية لخلق إسطورة واقعية تقوم بتجريد أبعاد الواقع من التفاصيل المملة رتيبة الإيقاع.
أساطير آدم حنين في النحت
وفي قسم خاص عن الفن التشكيلي يتناول الكاتب الفنان الكبيرآدم حنينفإبداعات هذا النحات المبدع منذ الخمسينيات وحتي الآن تشكل في اعتقاده استمرارا خلاقا للسلسلة المتعاقبة من البنائين والنحاتين الذين شيدوا الأهرامات ونصبوا المسلات وأحيوا بالنقوش الغائرة المعابد والأضرحة,غير أن أصالته والتزامه بجذوره وتراثه في النحت والتصوير الفرعوني لايقلل من قوة الحداثة في إنجازه الجمالي والفني,غير أنه يتميز وينفرد عن كثيرين من النحاتين المصريين والعرب برفضه الواعي التبعية لحضارة وفنون الغرب,إن آدم حنين في إبداعه يمارس حريته في اختيار موضوعاته النحتية سواء من نبع الطبيعة والإنسان والحيوان أو من التواصل بين الإنسان والطبيعة وصخب الحياة وديناميكيتها.
أيضا يذكرنا الكاتب برحيل الفنان التشكيلي المثقف صلاح طاهر بعد عمر مديد وحافل بالإبداع والعمل الفني الثقافي العام,حيث بذلك يسدل الستار عن آخر كبار مصوري الجيل الثاني,بعد جيل الرواد أمثال محمود مختار,صبري راغب,وأحمد صبري,والجدير بالذكر أن صلاح طاهر الذي ولد في القاهرة عام 1912 قدم إسهامات خلاقة في تجديد الفن التشكيلي المعاصري ذي الشخصية والهوية المصرية المنفتحة علي فنون الآخر الغربي والأوربي والأمريكي.