الإهانات والتجريح مثل جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم, ولا تمحوها هدنة مهما طالت, الإهانات المدفوعة برعونة أصحابها. خطايا بلا صكوك غفران, فلا غفران إلا لمن يحملون في قلوبهم مساحات للتراجع, مساحات تتسع للآخر قبل الأنا, وبصيرة تسحق شيطان الغضب الصارخ, أو حتي صريره الصامت, ووعي يقطع الطرق أمام جموع النفس الثائرة لوهم التحدي, فكل من يمارس التجريح مغرم بشفتيه فقط, إنما الحب لم يلمس قلبه بعد, فمساحات لم يخترقها الحب لابد وأن يحتلها العناد.
ذلك العناد الذي احتل قلب مدحت, فطرد الحب منه, وراح يبرح زوجته ضربا, ولا يرحم ضعفها, ولا يسامح زلات لسانها حينما صرخت في وجهه أنت مدمن, سقطت مغشيا عليها من فرط الألم, لم تتمكن من التشبث بالوعي, وانتهي الأمر بها في مستوصف مجاور للمنزل, وطفلاها في حوزة الجيران, والزوج أودعها المستشفي وفر هاربا خوفا من المسئولية, فتحت عينيها لتجد ممرضة تقدم لها التهاني: مبروك أنت حامل صرخت في وجه الممرضة, لأ حرام, إزاي أنا مركبة شريط, أجابتها الممرضة ده نصيب, أنت حامل في الشهر الثالث.
أصيبت مريم بذهول الحمل في الطفل الثالث, من زوج مدمن هارب, وأب متوفي وعم لا يفعل شيئا سوي التسول باسم بنات أخيه المتوفي, وأم لا حيلة لها في الحياة, هذا هو الموقف الأخير الذي فضلت أن تكون بداية قصة مريم به.. إنها امرأة في السابعة والعشرين من عمرها, جاء والدها مصطحبا إياها منذ سبع سنوات تقريبا, لمساعدته في مستلزمات زيجتها, وبعد إجراء بحوث عديدة وزيارة منزلية, وفحص شامل, فوجئنا أن هذا الرجل ليس والدها, وإنما عمها شقيق والدها, لم نتخل عن مريم فما ذنبها في أفعال من حولها, وقررنا المساعدة في زيجتها, خاصة أنها يتيمة وحيدة ليس لها أي حظ من التعليم, والزواج بالنسبة لفتاة في ظروفها فرصة للفرار من أجواء ملوثة.
وتزوجت مريمو وزوجها يعمل في مجال جمع المخلفات, فرز القمامة, وبعد فترة من الزواج أنجبا ولدا وبنتا, لكن لم يدم الحال, رويدا رويدا تحولت مريم إلي مسخ, حينما تراها كأنك تري فتاة من بلاد المجاعات, مجرد هيكل عظمي, عظام يكسوها جلد شاحب, ووجه حزين بائس, صحة معتلة, نفس منكسرة انكسار يصعب وصفه, والسبب هو الزوج الذي لا يتورع عن ضربها ضربا مبرحا, ليس لأنها مخطئة في شيء ولكن لأنه فاقد الوعي بكل شيء, فالزوج أدمن الترامادول, ومن البرشام إلي البودرة, والاستروكس, صار مدمنا لكل الأنواع, وتحول إلي كائن مرعب, يأتي في نهاية اليوم ليمارس عليها كل صنوف العذاب, بداية من الضرب انتهاء بالجنس القسري.
لم يكن بوسع مريم أن تفعل شيئا, الضعف والفقر والجهل وقلة الحيلة واليتم, عوامل متشابكة ساعدت في تعظيم أوجاع مريم, وتقزيم فرص النجاة, حتي وقعت بين يديه مغشيا عليها في ذلك اليوم المشئوم, وفر هاربا منها بعد أن ألقاها أمام المستوصف الخيري, لكن عناية الله أرادت لها الخير, وخرجت متعافية, محتفظة بجنينها, رغم أنها لا تريد والزوج لا يريد لكن الله يريد ذلك الجنين, كان الزوج مختبئا بالقرب من المستوصف لمتابعة ما سيحدث, فالجاني يحوم حول جريمته, رآها وتعقبها إلي بيت عمها, وهناك وجد كاهن الكنيسة التي يتبعونها, وقد استنجدوا به فأتاهم, جثا الزوج علي ركبتيه قائلا: تصورت أن الموت خطفك مني, لكن الجبن خلاني ماقدرش أدخل معاكي, أنا جبان, لكن غصب عني, أنا عيان وعايز أخف عارف أنكم حاولتوا معايا أكثر من مرة وكنت باعاند, العند لبسني وملاني, بس المرة دي هاخف لازم أخف علشان عيالي.
صدق الأب الكاهن علي كلام مدحت وقرأ له حل الاعتراف, وخرجوا من باب البيت إلي مشفي للمدمنين تكفلت الكنيسة بنفقاته, ومنذ ذلك الحين ما يقرب من شهرين الآن ممنوع الزيارة عنه, ولم تصل أخبار عن تحسن حالته من عدمه, لكن مريم مازالت حائرة, ماذا تفعل في جنينها, إنها تحيا بالوجع, حتي إن صدمتها النفسية أثرت علي مخارج الكلام, فصارت تتكلم كما لو كانت طفلة حديثة العهد بالكلام التهتهة مريم لم تطلب شيئا سوي ضمان المساعدة في تكلفة الولادة, وإعالة الطفلين الصغيرين لأنها لا تملك شيئا, الكنيسة تتكفل بدفع رسوم رعاية المدمنين, وقبل أن ترحل قالت بصوت خفيض وببؤس منقطع النظير وحروف متعثرة الخروج من فاهها: حتي لو خف أنا حاسة مش هاقدر أرجع له تاني, لا قادرة أنسي التجريح والإهانات والضرب, ولا عارفة إزاي أحب الطفل إللي جاي, ولا قادرة أغفر له الذل, غصب عني, لكن محتاجة حد يسندني لأن عكازي في الحياة مكسور.
مثيلات مريم كثيرات, يتصورن أن عكازهن في الحياة كسرته العواصف بينما يقف الله ليعد لهن صخورا للسند من حيث لا يعلمن كيف ظهرت لتستند إليها ظهورهن بعد طول الارتكاز للخلاء. أثق أن الله سيدبر لمريم صخرة عظيمة تستند إليها هي وأطفالها الثلاثة لحين عودة الزوج أو استقلالها عنه لتتمكن من العودة للحياة الطبيعية وتربية الأطفال في أجواء نقية.