أنطون سيدهم .. والقضايا الاقتصادية
تاريخ النشر: 1994/1/16
إن العشرين سنة الأخيرة تعتبر فترة خطيرة في تاريخ البترول, فقد حدثت فيها تطورات متعددة, فبعد أن كانت الدول المنتجة للبترول وخصوصا الكائنة منها في الشرق الأوسط تسير بطريقة رتيبة وعادية من إنتاج البترول الذي تتولي توزيعه شركات أجنبية وبأسعار مستقرة, فقد ظهرت في سوق البترول ظاهرة جديدة لم يكن أحد ينتظرها أو يتنبأ بها, وهي قيام الحرب في سنة 1973 بهجوم مصر وسوريا علي إسرائيل لتحرير أراضيهما المحتلة منذ سنة 1967, وقد أدت مساعدة أمريكا لإسرائيل إلي إعلان الدول العربية المنتجة للبترول بإيقاف إنتاجه وتصديره للخارج.
سبب وقف الدول العربية لإنتاجها للبترول أزمة فظيعة في سوق البترول في العالم مما أدي إلي ارتفاع أسعاره من ثلاثة دولار للبرميل إلي عشرين دولارا وعندما وجدت الدول العربية أن ارتفاع الأسعار يدر عليهم دخلا ضخما ما كانوا يتصورونه أخذوا في رفع أسعاره تدريجيا حتي وصل سعره إلي أربعين دولارا للبرميل, واضطرت الدول جميعها إلي قبول هذه الأسعار الباهظة وخصوصا الدول الصناعية منها لحاجتها الشديدة له لتشغيل مصانعها وقواها المحركة المنتجة للكهرباء لاعتمادها الكلي علي البترول, وفي فترات رفع الأسعار كان رجل البترول الأول في المنطقة وهو الشيخ زكي اليماني الذي أعجبتني أفكاره في ذلك الوقت, يحذر وبكل شدة الدول المنتجة من رفع الأسعار بهذه الطريقة العشوائية, قائلا لهم بإن هذا الاندفاع نحو تيار رفع الأسعار سيسبب مشاكل خطيرة للعالم كله, وستكون النتيجة وبالا علي الدول المنتجة للبترول, وكان يري ألا تزيد الأسعار عن عشرين دولارا, وكان دائما يقف حائلا ضد هذا التيار الخطير وخصوصا أنه كان يمثل المملكة السعودية في الأوبك, وأخيرا تخلصوا منه ومن سياسته المكروهة منهم.
لم تسكت الدول الصناعية علي هذه الظاهرة الخطيرة, فبدأت في تشغيل آبار البترول في بحر الشمال سواء في النرويج أو إسكتلندا وأمريكا وأماكن أخري بأقصي إنتاجها, كما بدأ تعاملها مع روسيا وهي من أكبر الدول إنتاجا للبترول, وكونت مجموعات من كبار علمائها لاكتشاف مصادر أخري للطاقة, وأنشأت عشرات من المحطات النووية لتوليد الكهرباء, وشجعت شركاتها علي البحث عن البترول في جميع أنحاء العالم, وأدي ذلك إلي هبوط أسعار البترول إلي حدود ثمانية عشر دولارا للبرميل.
في نفس الوقت أخذت دول الشرق الأوسط المنتجة للبترول في الاندفاع في إنتاج البترول لزيادة الكميات المنتجة لتعويض الهبوط في أسعار البيع, وقد حاولت مؤسسة الأوبك تحديد الإنتاج لكل دولة, ولكن أغلب الدول المنتجة لم تلتزم بهذا التحديد وتجاوزته بكثير, وقد أدي ذلك إلي استمرار هبوط الأسعار, وأخيرا وصلت الأسعار إلي عشرة دولارات للبرميل, ومع ذلك استمرت الدول المنتجة في زيادة إنتاجها والذي سيؤدي إلي هبوط آخر للأسعار, وهي كارثة لهذه الدول.
لقد أدت موجة ارتفاع أسعار البترول في سنة 1973 وما بعدها إلي ارتفاع الأسعار العالمية لمنتجات مصانع الدول الصناعية, إذ أن البترول يمثل عنصرا أساسيا في الإنتاج, وبذلك أخذت الدول العظمي في تعويض خسائرها من ارتفاع أسعار البترول, ولم يضار ضررا بليغا إلا الدول النامية التي لا صناعة لها ولا بترول, وكان سببا في زيادة ديون هذه الدول المسكينة التي اندفعت في طريق المديونية حتي غرقت فيها, كما أدت إلي التضخم الشديد الذي اكتسح العالم وسبب أزمات للجميع.
كما أخت الدول العظمي في محاولة امتصاص المدخرات الكبيرة للدول المنتجة للبترول ليس فقط برفع أسعار منتجاتها ولكن بطرق متعددة, فأثارت التوترات والحروب بين هذه الدول, وأخذت في بيع الأسلحة لها بمبالغ باهظة, حتي يقال إن حرب الخليج كانت بتكتيك أمريكي, والتي جعلت سفيرتها في العراق تفهم الرئيس صدام حسين بطريقة غير صريحة بأن أمريكا لن تعارض في استيلائه علي الكويت, وبمجرد انقضاضه علي الكويت واستيلائه عليها قامت الكويت والسعودية وإمارات الخليج بالاستغاثة بأمريكا, التي كتلت الدول الغربية لمحاربة العراق وإجلائه عن الكويت, كل ذلك بنفقات ضخمة وباهظة تحملتها السعودية والكويت, وأدي ذلك إلي استيلاء أمريكا علي كل مدخراتهم بل واضطروا إلي الاستدانة أيضا علما بأن هاتين الدولتين كانتا أغني الدول المنتجة للبترول وأكثرها مدخرات.
النتيجة الآن أن الدول المنتجة للبترول تعاني من أزمة خانقة سببها هبوط أسعار البترول, وعجز ضخم في ميزانياتها, كما أن الدول النامية تعاني من الديون التي كبلتها ولا تتمكن من الفكاك منها, هذه هي نتيجة الاندفاع الأحمق وغير المدروس في رفع أسعار البترول في سنتي 73 و1974.