حينما تراها ينشق فؤادك إلي نصفين, النصف الأول يصرخ من فرط الظلم, والنصف الثاني يخبئ شكرا لله علي نعمة العقل والإدراك, حينما تراها تمط شفتيها, وتحملق بعينيها, وتفرد عنقها وكأنها تريد أن تطال السماء في حركات لا إرادية, لا يمكنك التمييز بين الغضب الساخط علي جمهورية الظلم الأناني إلي حد الهروب من الواقع المشوه, وبين الحمد علي النعمة المجانية التي تحيا في كنفها غير واع, لأنك اعتبرتهاواقعا غير قابل للنقاش, إنها مريم ابنة الحظ التعس, وآلاف مثلها يحيون ولا نراهم, وربما لا نريد أن نراهم, فعذاباتهم جمرات تحرق قلوبنا.
مريم ابنة الغياب التي جاءت بعد تأخر دام سبع سنوات, واكتشفت مارية والدتها أنها حبلي, تناثرت الذكريات التي كثيرا ما كذبتها, حينما أخبرها الأطباء بعدم وجود أي مانع لديها أو لدي زوجها, تبددت شكوكها, واستعادت ثقتها التي قد فقدتها في الجميع, فكانت تظن في زوجها أنه يوهمها بذلك شفقة بحالها, وأنها لن تنجب أبدا واستسلمت لليأس.
لكن إرادة الله تتحدث حينما بصمت البشر, وتراقصت الآمال في أحشائها, ومضت فترة الحمل بكل ما تحمله من مخاوف ومشاعر كانت تتمني أن تمر بها مثل سائر النساء, لكنها رقصة الموجوع الذي يتلوي عبر التفاف الألم حول مفاصله.
انجبت مارية ابنتها مريم. التي احتاجت حينها المرور علي حضانة لمدة أسبوع, لكن الأيادي القصيرة تظل قصيرة حتي في أصعب اللحظات. مريم الطفلة العزيزة التي لم يستطع أبواها دفع تكلفة الحضانة, التي كانت حينها حوالي ألف جنيه في اليوم, قال والدها: نحطها تحت لمبة نيون بدل الحضانة, ولا أعلم كيف فعل هكذا بابنته التي عاش سبع سنوات يتمني قدومها للحياة!! ربما لو كنت مكانه لفعلت نفس الشيء, فالأسرة فقيرة, ليس لها حظ من التعليم, ولا الحد الأدني من الثقافة.
مريم الآن في العاشرة من عمرها تحيا بنصف عقل, تنمو وتكبر, وفي كل يوم يكبر معها ذنب ارتكبه والداها دون دراية, وحقيقة واحدة لا تسمح لهما بالهروب منها مهما طال الزمن, وهي ما تعانيه البنت من ضمور في العقل والإدراك. إنها لا تتكلم لا تنطق, لا تعي, تتحرك حركات تعبر عن عدم التحكم وطبعا لم تذهب إلي المدرسة. لم تفعل أي شيء مما يفعله أندادها أو أخوانها, بعد أن تحرر رحم مارية فأنجبت بدلا من المرة ثلاث مرات.
الطفلة مريم تأتيها حالات هياج شديدة مفاجئة, في بعض الأيام, وفي أيام أخري حالات خمول رهيبة, تحتاج دائما للألبان وجرعات علاج لضبط حالات الهياج والخمول, وجلسات تخاطب دائمة, ألحقها والدها بمدرسة فكرية للتفاعل مع من لهم مثل حالتها, الشعور بالذنب يقتلهم أكثر من الشعور بالفقر.
وتستمر استغاثة ألبان الحياة
استغاثة لا تنقطع يطلقها باب افتح قلبك, لصالح الأطفال الرضع جفت أثداء أمهاتهم من اللبن الطبيعي , و رحلت أمهاتهم عن الحياة أثناء الولادة, يحتاجون ألبان الرضاعة نستوجين 1, أو نستوجين 2 حسب السن, وللأسف سعر العبوة لا يقل عن 60 جنيها ولا تكفي إلا ليومين, أو ثلاثة أيام علي الأكثر, مع الترشيد, فمن أين للبسطاء بهذه الأموال, لإرضاع صغارهم؟.
لا يقف الأمر عند أولئك الذين فقدوا أمهاتهم, وإنما يمتد لعدد كبير من الأسر التي نتعامل معها, مع اختلاف نوع اللبن, فلدينا سبع أسر تحتاج ألبانا جافة, نيدو, إذ يحيا أبناؤهم عليه, بسبب إصابتهم بإعاقات مختلفة, ومعظمهم يعانون من ضمور بالمخ, وتوقف في وظائف الجسم, فيكون من العسير جدا عليهم ابتلاع الطعام العادي, ويلجأ الآباء للألبان الجافة لتغذيتهم كغذاء رئيسي, والعبوة لا تكفي أسبوعا ومرتفعة السعر جدا, أولئك الذين فقدوا كل مباهج الحياة واستقرت أمهاتهم إلي جوارهم, فلا هم شباب ولا مراهقون, ولا أطفال, أرواح بلا أجساد, أعين تتفحص المحيط المتحرك, وجسد صامت صامت, كما الموت لا يعبر عن مواجعه, ألا يستحقون الحصول علي غذائهم بكرامة كل شهر؟!