أليس عجيبا أن كثيرا من الخدام النافعين, لا يتركهم الرب يخدمون طويلا!! يكفي أنهم قدموا عينة ممتازة للخدمة والبر قدموا مثالا يحتذي.. واكتفي الرب بما قدموه, وأطلقهم بسلام.
وقد قدم يوحنا مثالا ممتازا للخدمة الجادة, وللروحيات العميقة, تنسم منها الله رائحة الرضي, وصرفه بسلام.
وتبرز عظمة يوحنا في أنه عاش بكماله علي الرغم من أن عصره كان مظلما.
كان عصرا شريرا. وكان أشر ما فيه قادته الروحيون من أمثال كهنة اليهود ورؤسائهم والكبتة والفريسيين والصدوقيين, وقد قام فيه من قبل بعض المعلمين الكذبة مثل ثوادس ويهوذا الجليلي اللذين تكلم عنهما غمالائيل (أع5) وقد أزاغا كثيرين.
وكان عصرا يتميز بالحرفية والبعد عن الروح. ويتصف رجال الدين فيه بالرياء والكبرياء. وعلي الرغم من وجود أضواء بسيطة مثل سمعان الشيخ وزكريا الكاهن وحنة النبية, إلا أن العصر في مجموعه كان فاسدا, وصفه الرب بأنه فاسق وشرير (متي 12:39).
ولكن القديس يوحنا لم يتأذ من فساد جيله, بل علي العكس كان بركة لجيله وسبب هداية وتوبة.
ومن عظمة يوحنا أنه كان ابن الجبال تربي علي حياة الزهد والنسك.
وعاش في البراري طوال عمره ينمو ويتقوي بالروح (لو1: 8).. عاش ناسكا خمرا ومسكرا لا يشرب يلبس وبر الأبل (مر1: 6) ويأكل عسلا بريا.
وفي البرية تعلم الصلاة والتأمل, وتعلم الشجاعة والصلابة والإيمان.
أعده الله في البرية, كما أعد العذراء في الهيكل.
فنشأ شجاعا لإيهاب إنسانا.. يصلح أن يكون صاحب رسالة.
ويقول الحق بكل قوة, ولا يهمه ماذا تكون النتائج
أخطأ هيرودس الملك, ولم يكن من يجرؤ أن يوبخه أو يواجهه بالحق سوي يوحنا المعمدان, فكان الوحيد الذي قال لهيرودس لا يحل لك..
ألقاه هذا الملك في السجن, فلم يهتم, إن ناسكا مثله زهد كل شيء, لا يخاف السجن, حتي لو تعطلت خدمته, وكان فكره في ذلك.
إن كان الله يريده أن يخدم فسيخدم, وإن كان الله لا يريد فلتكن مشيئته. المهم أن يشهد للحق.
وان ما كان.. وقطعت رأس يوحنا المعمدان, ولكن هذا الصوت الصارخ في البرية ظل يدوي في أذني هيرودس, يزعج ضميره وأفكاره ونومه وصحوه.. ويقول له في كل وقت لا يحل لك.
صوت يوحنا لم يمت بموت يوحنا.
وظل هيرودس يخاف بعد موته.. فعندما وصلت إلي عمله كرازة المسيح القوية ومعجزاته, قال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات, ولذلك تعمل به القوات!! (متي14:2).
إن يوحنا قد عامل هيرودس كالباقين شهد له بالحق, لأنه كان محتاجا إلي هذه الشهادة.
كان معموديته هي معمودية التوبة.
ونادي قائلا للناس توبوا فقد اقترب ملكوت السموات (متي3: 2).. وكان شديدا في عدوته, ويوبخ وينتهر ويبكت. وكان الناس يقبلون تبكيته بقلب مفتوح.
ونجح المعمدان في خدمته خرج إليه أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن.. واعتمد منه في الأردن معترفين بخطاياهم (متي 3:6).
ولما رأي الجموع قد كثرت حوله, حول أنظارهم منه إلي المسيح.
بذل كل جهده لكي يختفي هو, ويظهر المسيح. ولعل هذه هي أبرز فضائل هذا القديس وأعمق أعماله.
كان يقول للناس أنا أعمدكم بماء للتوبة, ولكن الذي يأتي بعدي.. سيعمدكم بالروح القدس ونار (متي3:11).
وكما كان يجذبهم إلي معمودية أخري أفضل من معموديته. كان يجذبهم بالأكثر إلي صاحب تلك المعمودية, قائلا إنه أقوي منه وأعلي وأقدم.
فقال يأتي بعد من هو أقوي متي, الذي لست أنا أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه (مر 1:7). يأتي بعدي رجل صار قدامي, لأنه كان قبلي (يو1: 30).. لست أنا المسيح, بل أني مرسل أمامه (يو3: 28).
لم يبحث هذا القديس عن مجد ذاته إنما عن ملكوت المسيح.
كان يدرك أنه ليس هو النور, إنما ليشهد للنور (يو 1:8) ليؤمن الكل بواسطته كان يعرف أنه مجرد سابق أمام موكب الملك الآتي, كل عمله أن يعد الطريق للملك واستطاع يوحنا أن يحفظ طقسه, ولا يتجاوز حدوده.
كانت الذاتية ميتة عنده. وكان المسيح هو الكل في الكل.
إنه درس للخدام الذين يبنون ذاوتهم علي حساب الخدمة, أو يتخذون الخدمة مجرد مجال لإظهار ذواتهم!!
أروع كلمة تعبر عن خدمة يوحنا, هي قوله عن المسيح ينبغي أن ذلك يزيد, وأني أنا أنقص (يو3: 30).
لذلك عندما بدأت كرازة المسيح, وأخذت تكتسح جو الخدمة, ابتهج يوحنا وفرح وقال: فرحي قد كمل من له العروس فهو العريس, أما أنا فمجرد صديق للعريس, أنظر من بعيد وأفرح.
وهكذا سلم العروس للعريس.
سلمه الكنيسة التي أعدها له بالتوبة وسلمه تلاميذه أيضا, وانسحب من الميدان فرحا, مسلما القيادة للرب.
وكان أعظم عمل للقديس يوحنا هو عماده للسيد المسيح.
وهنا نري موقفين عظيمين في الاتضاع: الأول هو مجيء المسيح ليعتمد من عبده يوحنا. والثاني هو هذا النبي العظيم يقول للسيد أنا محتاج أن أعتمد منك أنا أيضا خاطئ محتاج إلي معمودية التوبة.
أنا أمام هؤلاء الناس معلم, أما أمامك أنت فأنا تلميذ. أمامهم أنا نبي وملاك, وأما أمامك فأنا تراب ورماد, أنا أمامهم كاهن, وأما أنت فمصدر كهنوتي وكل كهنوت.
إن كل العظمة التي أحاطت بيوحنا وكل الشعبية الجبارة التي كانت له لم تنسه ضالة ذاته أمام المسيح.
لقد فعل كأمه إليصابات حينما قالت للعذراء: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي.
قال يوحنا للرب أنا محتاج أن أعتمد منك, ولم يقل له الرب إنه غير محتاج بل قال اسمح الآن لأنه يليق بنا أن نكمل كل بر (متي3: 15). حينئذ سمح له.
ونحن نقف منذهلين أمام عبارة اسمح الآن وهي تخرج من فم الرب موجهة إلي واحد من خدامه.
إنه في رقة ولطف يقول له لست أمرك, إنما أطلب سماحك.. أطلب موافقتك.. لكي نكمل كل بر.