إن الفضيلة في المؤمن مثل كنز مخفي في حقل..
وما أكثر القصص التي يحكيها لنا تاريخ القديسين, عن أولئك المتواضعين الذين أخفوا فضائلهم, بل أنه أخفوا ذواتهم أيضا, وعاشوا مجهولين من الناس, ولكنهم معروفون من الله.
وينطبق عليهم قول الرب في سفر النشيد أختي العروس جنة مغلقة, عين مقفلة, ينبوع مختوم (نش 4: 12).
مثال ذلك العذراء, التي كانت كنزا للرؤي والاستعلانات, ومع ذلك ظلت صامتة تحفظ كل تلك الأمور متأملة بها في قلبها.
والتواضع, كما يحمي الفضيلة هو أيضا يحمي المواهب..
فكثيرون نالوا مواهب, فلم يحتملوها بل ارتفعت قلوبهم فسقطوا.
والقديس الأنبا أنطونيوس يقول إن احتمال الكرامة أصعب من احتمال الإهانة.
لذلك إن وهبك الله موهبة معينة, فاطلب إليه أن يهبك اتضاعا ليحميها.
قال مار إسحق: إذا أعطاك الله موهبة, فاطلب منه اتضاعا, أو اطلب منه أن يأخذها منك, لئلا تهلك به.
الاتضاع يسبق المواهب بالنسبة إلي القديسين, ويستمر مع الموهبة فلا ترتفع قلوبهم بها.
إن الذين قالوا للرب باسمك تنبأنا, وباسمك أخرجنا شياطين, قال لهم إني لم أعرفكم قط. ومن هنا نفهم أن المواهب وحدها لا تكفي لخلاص الإنسان.
إن الله قد يعطيها لك, ليس من أجلك, وإنما من أجل غيرك, لكي يستفيدوا بها عن طريقك.
لعلنا بعد هذه المقدمة كلها نسأل ما هو الاتضاع؟..
ليس الاتضاع أن تتنازل من علوك فشعورك أنك في علو, ليس هو من الاتضاع. وشعورك أنك تتنازل, ليس هو أيضا من الاتضاع.
الوحيد الذي يتنازل هو الله والوحيد العالي بالحقيقة هو الله.
إنما التواضع هو معرفة الإنسان لذاته.. معرفته أنه خاطئ وضعيف..
وكلما كانت هذه المعرفة يقينية, كان التواضع حقيقيا.. لأن كثيرين لهم مظهرية الاتضاع. ولكن قلوبهم في الداخل ليست متضعة…
كثيرون يتحدثون بألفاظ متصنعة, وهذه الألفاظ ربما تزيدهم علوا في نظر الناس, وهم يعرفون ذلك..
وقد يقول الشخص منهم أنه خاطئ وضعيف. ولكن إن قال له أحد إنه خاطئ وضعيف, يثور ويغضب, ولا يحسبه من أحبائه, ويتغير قلبه من نحوه.
إذن الاتضاع الحقيقي هو اقتناع داخل القلب, ثم ماذا؟.
ليس الاتضاع هو فقط معرفتك لضعفك, وإنما أكثر من هذا أن تعامل نفسك حسب هذه المعرفة.
تعرف أنك خاطئ, وتعامل نفسك كخاطئ. وتقبل من الآخرين نفس المعاملة إن عاملوك بها.
وإن لم يعاملوك هكذا, انسحق في داخلك, واشكر الله علي معاملة أنت لا تستحقها منه, ومنهم.
والمتواضع الحقيقي لا يعتقد فقط في نفسه أنه خاطئ, وإنما أكثر الناس خطيئة, وأكثرهم عدم استحقاق.
ولا يظن أنه أفضل من أحد وباستمرار يتحدث المتكأ الأخير.
حسب وصية الرب.. وليس المقصود بالمتكأ الأخير, هو آخر مقعد..
وإنما المقصود هو الأخير من جهة المكانة, وليس فقط من جهة المكان.
وكما قال الشيخ الروحاني في أي مكان حللت فيه, كن صغير إخوتك وخديمهم. وقيل: كن آخر المتكلمين ولا تقطع كلمة من يتكلم لكي تتحدث أنت.. وحاول أن تتعلم لا أن تعلم, وتظهر معارفك.
سأل القديس العظيم الأنبا أنطونيوس عن تفسير آية, فأجاب كل منهم حسبما يعرف. وكان بينهم الأنبا يوسف الذي ظل صامتا. فلما سأله الأنبا أنطونيوس أجاب لا أعرف. فقال له القديس الأنبا أنطونيوس طوباك يا أنبا يوسف لأنك عرفت الطريق إلي كلمة: لا أعرف.
إن الذي يعرف حقيقته لا يفتخر, ولا يتعجرف, ويذكر أنه تراب ورماد..
هذا من جهة أصل الإنسان, ونفس الوضع بالنسبة إلي عمله..
كل ما فيك من خير, هو من عمل الله فيك, ومن تأييد نعمته.
وكل ما فيك من خطأ, هو من عملك أنت وحدك.
لذلك في وقت الخير, اشكر وفي وقت الخطأ, اتضع..
وليعطنا الرب نعمة في الأعداد المقبلة لنتابع حديثنا, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.