في ظل النفس الممزقة بين أوجاع الجسد التي لا فرار منها, وبين الشعور بالعالة علي من نحب, قد تصبح كل الأحلام مشروعة, حتي حلم الرحيل عن هذه الحياة, فالموت خلاصا من الأوجاع كان حلما مشروعا لدي عم جمال الذي تمني الموت مرات ومرات لكنه لم يدركه, إلا بعد انهيار كل وظائف جسده ومزقته عذابات الشفقة, وبعثرت نفسه انكسارات مد الأيادي لطلب المساعدة واضطرار بناته للسؤال بدلا منه حتي يتمكن من الإنفاق علي العلاج والمشافي.
رجل خمسيني عاش حياة صعبة, ممتدة الأوجاع والاحتياج بعد مماته بسنوات.. هل يتذكر أحد سلسلة نشرناها في باب افتح قلبك, منذ سنوات تحت عنوان عم جمال صديق المآسي؟ لمن يتذكر ولمن يقرأ للمرة الأولي, لقد اكتشفنا اليوم أن عم جمال صديق المآسي حيا وميتا,إذ رحل عم جمال لكن مأساته لم ترحل, ولم ينهها الموت, بل ترك لبناته, زوجته ميراثا من العوز, لم يفارقهن صليبا لم ينزل عن أكتافهن.
نشرنا عن هذا الرجل مرات ومرات قبل سنوات طويلة, حينما اعتاد زيارة الجريدة بوجهه البشوش الضاحك بالرغم من شدة الأمراض علي جسده, كان حينها في الخمسينات من عمره, أصيب بجلطات متكررة في القلب, أعقبتها جلطة في المخ, لديه أربع بنات وولد صغير كان حينها أربع سنوات,أي أنه لا يتخطي اليوم, وفي المرحلة الأخيرة أصيب بجلطة في المخ وشلل نصفي, أوقفته الشدائد عن أي عمل, وألزمته الفراش حتي أصيب بقرحة فراش غائرة وغرغرينا في مكان الإليتين بالظهر, ,ونقلناه للرعاية المركزة, وقام الأطباء بإجراء جراحة استئصال 25 سم بعمق 5سم وتركيب جهاز له في مكان قرحة الفراش, التي تعرض لها بسبب طول مرضه, الجهاز تكلفة تركيبه في الشهر حوالي ثلاثة آلاف جنيه, ولم يتأخر عنه المساهمين في شركة الحب الإنساني, لكن فجأة أصيب بفشل كلوي وطبيا لن يفلح معه الغسيل فحالة قلبه لم تكن قادرة علي التحمل, بدأ تناول عقاقير طبية تكلفتها 1500 جنيه شهريا, لازم الفراش مدة طويلة وإصابته بالسكر والضغط والجلطة, والفشل الكلوي قضت علي فرص تواصله مع الناس, أتذكر حينما حاول الاستغاثة اتصلت ابنة عم جمال بنا تستغيث, اختطفت الهاتف منها حروف لم أفهم منها شيئا أبدا, صوت غليظ متقطع يصرخ, كأنه يتشنج ويستغيث ويبكي في آن واحد, يريد قول شيء ولا يقوي, انتزعت الفتاة الهاتف منه وراحت تبكي قائلة:أبويا عايز يقول لك ده آخر طلب أبويا بيعيط وبيقول تقلنا عليكم, افتكري إللي طلبه منك.
عدت بذاكرتي لأتذكر وجهه الشاحب ممزوجا بسواد الشقاء والفقر, وهو يطلب مني قبل أن تصيبه الجلطات الأخيرة قائلا:لو جرت لي حاجة أوعوا تسيبوا البنات, مالهمش حد ولا مكان ولا معين إلا ربنا وأنتم, أنا هاموت هاموت بس ماكنتش عايز تتعبوا معايا وتصرفوا علي, وفروا الفلوس للبنات علشان تجوزوهم من بعديكلماته شقت حينها قطعت وعدا علي نفسي وقلت له:نيابة عن كل المتعاطفين يا عم جمال لن نترك بناتك ولن نتخلي عنهن في وجودك أو بعد رحيلك.
بعد فترة مات عم جمال وترك زوجته وبناته ما بين مساعدة الكنيسة ومساعداتنا الشهرية, لكن الحياة ليست طعاما وشرابا وحسب, فالذهاب إلي المدارس يوميا يحتاج مصاريف, والحياة مشحونة بالمواقف التي تستلزم نفقات غير ثابتة لكنها في حكم الثابتة, كل ذلك لم يكن يمثل مشكلة أمام هذه الأسرة التي اعتادت الحرمان, لكن ما أوجع قلبي وذكرني برجاء عم جمال هو خطوبة الابنة الكبري, أيقظت في ذاكرتي العهد الذي قطعناه معه بعدم التخلي عن بناته, فالابنة الكبري التي أنهت دراسة دبلوم تجاري, تقدم لخطبتها شاب محترم تم الاتفاق علي موعد الخطوبة وطبعا الظروف لا تسمح بأي شيء سوي صلاة سريعة عقب القداس الصباحي, ثم العودة للمنزل لتناول وجبة الإفطار والحلوي, مع قليل من الزينة وفستان جديد للفتاة أجد علامات تعجب علي وجوه القراء الآن, أعلم أنها طلبات أبسط من موضوع للنشر, أليس كذلك؟ لكنها للأسف غير متاحة, حتي الفرحة بفستان الخطوبة غير متوفرة حتي الفرحة بحفل بسيط بعد الصلاة غير متوفرة حتي عزومة أهل الشاب في بيت البنت غير متوفرة مبلغ زهيد جدا بوجوده تحل الفرحة المفقودة لكنه مفقود أيضا يعكس حال الأسرة وكأن عم جمال بكل أمراضه وضعفه وعجزه رحل لترحل معه البركة, هكذا تكشف الأيام ستر الناس, وتسرق أفراحهم المشروعة التي أقل ما توصف به أنها أحلام فقيرة.