التعافي.. رحلة تبدأ من الداخل, حينما يتولد لدينا شعور بالرغبة في الحياة, تغيير لا يحدث بين عشية وضحاها, إذ فقدنا القدرة علي التعافي حينما صرنا مخذولين, مخزيين, مرارا, والخذلان المتتالي يقتل شغف الحياة فينا, تنهشنا الوحدة, وتنفينا, فطوبي لمن يبقون علي الشغف في نفوس الآخرين, حتي ولو بالقليل من العطايا, طوبي لواهبي الشغف لأنهم يمنحون للمخذولين قبلة النجاة, وسر البقاء علي قيد الحياة.
هذه القبلة التي يحتاجها يوسف, إنه رجل أربعيني, كانت له آمال في إنجاب ابن يمنحه الحب الذي لا ينبع من الشفقة, ولا يجف حينما يميل الزمن, لكن الله لا يريد, فحينما ساعده عمه في إجراء جراحة دوالي الخصيتين ليتمكن من الإنجاب, كانت زوجته قد قاطعتها الدورة الشهرية فهي تكبره بست سنوات, غابت الدورة, وغاب معها آخر أمل في الأبوة.
امتثل يوسف لمشيئة الله, واستسلم للواقع, فلم يكن حاله منذ البداية صالحا لتربية أطفال, إذ كان يحيا علي مساعدة والدته وعمه, لأن راتبه لا يكفي, فواتير الكهرباء والمياه تتراكم عليه, الظروف الصعبة, والغلاء الفاحش, فضلا عن كونه غير مستقر صحيا, إذ يعاني من الضغط والسكر والبواسير, وقرحة المعدة والاثني عشر المزمنة, ويعاني نفسيا أيضا.
كان عاملا في إحدي شركات القطاع الخاص, وأوصت إدارتها بإبعاده مع الاستمرار في صرف جزء من راتبه.
الكل يراه مضطربا, وزوجته أيضا تراه أيضا مضطربا أضاع حياتها, فقد زوجوها منه دون إرادتها, بسبب طمع شقيقها في الاستحواذ علي ميراثها في شقة والديهما, شقيقها الذي أراد تزويجها بسرعة, لإثبات عدم أحقيتها في العيش داخل العين السكنية, خرجت الزوجة بمشاعر الغبن الكامنة فيها تجاه أخيها, لتصب جام غضبها علي يوسف, بدلا من أن تفعل ذلك بشقيقها, وصار يوسف محاصرا باتهامات من حوله, تضيف لاضطرابه اضطرابا جديدا, ولآلامه النفسية المزيد من المعاناة.
حينما جاء يوسف خلال عام 2020 كانت الأوضاع الاقتصادية مهتزة بسبب جائحة كورونا, واهتزت معها أوضاع يوسف, التي هي مهتزة منذ البداية, فمزيد من الفواتير المتراكمة علي كاهله لم يتم دفعها.
ماتت والدته, ومات خاله, وهكذا فقد مصدري دعمه المادي والنفسي, أما شقيقه الوحيد فلم ولن يساعده, لأنه يشترط علاجه النفسي أولا,وينعته دائما بأنه مريض نفسي, يقول يوسف: أخويا بيكرهني علشان باضرب عياله وأجري وراهم, ووداني لدكتور نفسي قال عندي وسواس قهري, وأنا مش عندي حاجة والدواء بيتعبني.
بطلت الأدوية, بطلت أروح الكنيسة, غيرت اسمي في البطاقة كان اسمي وحش, الناس بتعتبرني مجنون, طيب حتي لو أنا مجنون, ينفع مادفعش الفواتير إللي علي راسي دي؟ حتي المجانين بيحتاجوا فلوس علشان يعيشوا, وياكلوا ويشربوا ويدفعوا مية وكهرباء حتي المجانين محتاجين فلوس علشان يتعالجوا, ويتستروا, لأنهم ماعندهمش فلوس يقعدوا في مصحات.. حتي المجانين محتاجين رعاية وحب واهتمام وحنية, اعتبروني مجنون زي ما بيقولوا بس ادفعوا لي الفواتير.
يبدو أن احتياج يوسف للمساعدة النفسية لم يمنعه من التعبير عن لسان حال فئة بأكملها, إنه محق فيما يقوله, فالمجانين ـ تعبير مجازي علي لسان يوسف ـ أيضا يجب أن يسددوا فواتيرهم للدولة, فالمرض النفسي مازال وصمة عار في مجتمعنا, ولا أحد يفصح عن علاجه النفسي, أو علاج المقربين منه, حتي لا يتم لفظه خارج دوائره.
ورغم تطور الثقافة المجتمعية إزاء ذلك إلا أنها منحصرة في دوائر ذات مستوي ثقافي مرتفع للغاية, ودون ذلك الأمر مخجل, لأن الاتهامات تحاصر المريض إلي أن تنهكه, وتفقده القدرة علي احتمالها واحتمال الحياة كلها, لذلك يخشي الناس الوصول إلي هذه النهاية فيفضلون عدم الإفصاح, عن معاناتهم, علي اختلاف صلابتهم النفسية.
وبناء علي ذلك ليس لدينا مدونة رسمية, بالأمراض النفسية التي يجب تصنيفها إعاقات للحياة الاعتيادية والعمل, وبالتالي من غير المعلوم كيف تتعامل الدولة مع أولئك الذين يحيون بآلام نفسية شديدة مصنفة اكتئابا أو وسواسا قهريا, أو فصاما, إلخ اللهم إلا بعدما يرتكب الشخص جريمة, تستوجب فحصه بعد وضعه تحت الملاحظة, أو عند الحجر عليه, وهذا لا يحدث سوي في حالات معينة, فماذا تفعل الدولة مع هؤلاء؟
لأننا لا نستطيع تغيير ذلك الواقع المؤلم, قررنا مساعدة يوسف عبر باب افتح قلبك, حينما جاء لسداد فواتيره, وغاب يوسف لعامين, ثم عاد بنفس الأزمة, إنها أزمة الفواتير. طالبا مساعدة شهرية تسمح له بالوفاء بالتزاماته من فواتير الكهرباء والمياه والغاز, وشراء بعض الأدوية, فليس لديه من يساعده. أيضا لا مفر من محاولة جديدة معه للجوء لطبيب نفسي ربما تتحسن الأحوال.
لم يكن يوسف ضحية للظروف فقط, وإنما قسي عليه المجتمع والناس حتي أفقدوه الرغبة في التعافي لمواجهة الظروف, فطوبي لمن يمنح هذا الرجل فرصة للتعافي, وشغفا للحياة.