هذه المساحة معنونة منذ سنوات طويلة بعنوان جر شكل, ولكنني الآن أجزم لكل من تقع عينيه علي هذه السطور, بأن وزارة الصحة تجر شكل المواطنين, وهذه السطور ما هي إلا تقرير للواقع المرير وليس جرا للشكل. فحينما قررت الحصول علي لقاح كورونا دخلت في مهزلة متعددة المستويات.
لم تكن رحلة الحصول علي اللقاح, آمنة, فهي رحلة كفيلة وسط حشود المنتظرين بلا أماكن مخصصة للانتظار ولا تنظيم حقيقي, أن تتسبب في العدوي المباشرة السريعة, يكفي أن أقول لكم إنني بعد انتظار دام من السابعة صباحا وحتي التاسعة مساء, حينما وصلت أمام الطبيبة المختصة بتحصيل البيانات الطبية, سألتني هل تعانين من أية أمراض, قلت لها: مش فاكرة غير إن عندي الضغط وبعد تلقي الجرعة اكتشفت أني نسيت إبلاغها بأنني أعاني من حساسية مفرطة في الصدر والجيوب الأنفية, وهو أمر مهم.
وكيف لي أن أتذكر حتي اسمي, وأنا علي مدار 14 ساعة واقفة أمام باب حديدي, تصدر من خلفه أصوات انتهار من الموظفين والمسئولين عن إدارة عملية التنظيم, ويقف أمامه حشود بشرية غاضبة, تريد الحصول علي ورقة إثبات تلقي الجرعة من أجل السفر, باب حديدي, هو باب عمارة صغيرة, في منطقة المبتديان بالقاهرة, بها شقة صغيرة هي مكتب صحة قصر النيل, الذي تم تخصيصه كوحدة لتطعيم المسافرين بالخارج, ليقف الناس في الشارع بعضهم جالسا فوق الرصيف, والآخر مستندا إلي عامود الكهرباء وحفنة من البشر تطلق موجات الغضب بين ساعة وأخري, بعد أن أضناها الانتظار, وكشوف تطوعية تمت كتابتها, ثم جاء المسئول عن التنظيم في الوحدة, ليمزقها ويبدأ من جديد.
بدأ اليوم في السابعة صباحا حينما تطوع رجل خمسيني, بعمل كشف لترتيب الدخول, والكل التزم وسجل كل فرد منا اسمه, حتي الحادية عشر صباحا لم يفتح مكتب الصحة أبوابه للناس, بالرغم من أن مواعيد العمل الرسمية, تبدأ في التاسعة صباحا, وبعد مشادات كلامية عديدة جرت بين المنتظرين وبين القوة المرابطة في المكتب من عساكر وضابط وأمين شرطة بسبب عدم وجود تنظيم, اضطرت بعض السيدات لإبلاغ النجدة.
ثلاث مرات يتم الاتصال بالنجدة ولم يجب أحد, فتاة في العشرينات من عمرها, رفعت وجهها نحو شرفة المكتب صارخة: عايزة أروح الحمام, لو اتحركت دوري هيتاخد, أروح فين, مفيش نظام, حرام عليكم كلنا هناخد كورونا وتكرر المشهد عدة مرات, واعترف أنني لم أكن ملاك الرحمة الذي يضع البلسم علي الجروح, , بل كنت غاضبة مثلي مثل الجميع, صممت علي تناول الجرعة وعدم العودة إلي منزلي, وفي الثامنة مساء تدافعت مع الحشود الواقفة علي الباب وانطلق العشرات إلي بهو العمارة المظلمة, فلا إضاءة في البهو ولا السلم, ولا أري شيء مجهز للمجاميع ـ مئات البشر ـ الواقفين ولديهم رسالة وزارة الصحة للتوجه لهذا المتكب محدود القدرات.
وفي الداخل كانت المفاجأة, شقة صغيرة من ثلاث غرف ضيقة, جهاز كمبيوتر واحد وموظف خزينة واحد, وطبيب واحد, وممرضة واحدة للحقن, عدد عساكر الشرطة الموجودين للتأمين أكبر من عدد الأطباء!
يا سيادة وزيرة الصحة طفح الكيل, المنظومة هالكة ومهلكة, يكفي أن أذكرك أن مستشفي المنيرة كان علي بعد 20 مترا ويمكن نقل المكتب بأكمله إليه وضمان وجود أماكن آدمية لانتظار البشر, والتخفيف عن سكان العمارات المحيطة بالمكتب, بل أنني واحدة ضمن الناس الذين وصلتهم رسالة التلقيح في وسط البلد, بينما مكتب صحة شبرا متاح وبجوار المنزل. أين أنت ياسيادة وزيرة الصحة من كل ما يحري يوميا في مراكز الصحة المشابهة؟ فطبيب مكتب الصحة, وكل الموظفين كانوا بلا كمامات, الرجال منهم ينفخون السجائر غضبا وإجهادا ومعاناة, في وجه الناس, والنساء يجلسن في حالة من انعدام التركيز التي تصل إلي حد الذهول الصامت, هم لا ذنب لهم, هم ضحايا مثلنا, ضحايا منظومة صحية تجبرهم علي التعامل مع الجماهير لمدة 14 ساعة متواصلة بلا راحة ولا بيئة عمل مناسبة, لا تحفظ صحة الناس ولا كرامتهم.