عتبات العوز ارتفعت, وتعثر المارة فوقها, والغلاء يزيح الملايين كل يوم تحت خط الفقر, ويصارع الإفلاس عبر جيوب الفقراء, ومهما التزم الناس بشعار اربط بطنك شد الحزام, لن يتمكنوا من الوفاء بالحاجات الأساسية, فكتاب القهر لا يطوي صفحاته إلا وضحاياه صرعي, وليس في الأفق المنظور مخرجا. خاصة إذا كانت ضحية الفقر فتاة.
فالأهالي يتخلصون من الفتيات بالزيجات للفرار من المسئولية, ولدينا اليوم أربع بطلات لقصة مؤلمة, تجسد ما نرويه.
فيا أيتها الفتيات اللواتي سطرن مواجعهن في كتاب القهر اكتبن علي صفحة الغلاف, غدا يرسل الله منقذا للبائسين, واكتبن في المتون رضعنا حليبا حلالا لكننا عطشي الآن, وارسمن علي صفحة الغلاف الأخير صورة للريحان في أراضينا التي دفنت فيها الحقوق بديلا عن النبت والازدهار علي أيدي القساة في كتائب الجباة, قبل أن تتحولن إلي ذات المصير الذي يتحولن إليه فتيات قصتنا.
جاءت منذ خمس سنوات بجسد هزيل حاصره الحرمان والجوع, وزفاف علي الأبواب أوقفه الخجل من سؤال الناس, إنها كريستين التي ذهبت إلي الكنيسة لمساعدتها في مصاريف الزواج, ولأن الكنائس فقيرة في المناطق العشوائية, أحالها المسئولون عن خدمة إخوة الرب إلي باب افتح قلبك أملا في استكمال حاجاتها.
وجائتني الفتاة, والابتسامة لا تفارق وجهها الشاحب الضعيف, كنت أظنها ابتسامة الفرح حتي سالت دموعها وظلت الابتسامة ملء الشفاة تخبئ فيها حرقة المذلة. هكذا كتبنا حينها, وتعاطف القراء.
قالت حينها: احنا أربع بنات, إثنين معاهم دبلوم وعلي وش جواز, وواحدة معهد تمريض والرابعة في كلية إعلام, والدي كان عامل, بيجهز الخلطة للبناء أبويا اتعرض لمرض اسمه الذهان الضلالي من سنتين ومع المرض أصبح صعب عليه التعامل مع الناس, ولما بيشتد المرض عليه بينزل فينا ضرب وبيمرمطنا أنا وإخواتي البنات وأمي ودناه من سنتين لدكتور نفسي, ومن يومها بياخد عقار اسمه كلوزابكس 100 مليجرام ولأننا مش معانا فلوس مارحناش لدكاترة تاني, الدوا بيهد أبويا أعصابه بترتخي ورجليه ماتشيلهوش, علشان يسيطر علي ثورته وانفعالاته وضلالاته.
من وقتها بدأت أمي تتاجر في العبايات الحريمي, كل يوم تلات وجمعة تروح تقعد في السوق, وآخر الشهر تطلع ب500 جنيه تقريبا, وأنا واختي بنشتغل في مصنع تشطيب ملابس.
الغريب إن أول ما استغلنا في المصنع, المسئولين عن إخوة الرب شطبونا من كشوف البركة, مع أن مرتباتنا ماتكفيش أكل ومواصلات وصرف علي البيت بناكل طول اليوم علبة كشري علشان ساندوتشات الفول بقت غالية علينا ومش بتشبعنا.
روت كريستين ـ آنذاك ـ معاناتها وابتامتها تملأ وجهها ووجنتيها غارقتين بالدموع, تملكتني رغبة ملحة في ضمها إلي صدري, وكأنني أقدم لها اعتذارا نيابة عن جميع القادرين الذين لم يعلموا بمعاناتها, كنت أتصور أن هذا سوف يريحها, وإذا بها تنفجر في البكاء شهيقا وزفيرا متكررا, أنينا يمزق القلوب, يذيب الصخور, عاجزة أنا عن إيقافه لأنه أنين القهر وظلم الحياة للبشر.
إلي هنا انتهت القصة القديمة, وبعد نشر قصة الفتيات الأربع مرتين متتاليتين, في عام 2016, تولت سيدة كريمة مساعدة الأسرة شهريا, لكن العوز كالسيل الهادر لا يتوقف إلا بكارثة كل ما يأتي يذهب, وتزوجت الشقيقتان الحاصلتان علي الدبلوم, ووقعت إحداهن ضحية لزوج مدمن, فعادت بولدها لبيت أبيها المريض, لتعيد إنتاج المأساة, تخرجت الشقيقة الصغري منكلية الإعلام ولأن سوق الصحافة في ركود, طالها اليأس, وبعد أن ساعدناها في الحصول علي تدريب قوي لمدة سنة, اضطرت للعودة في العمل بمصنع الملابس لأن الغلاء والوباء تمكنوا من الأحوال.
أما طالبة التمريض فموعدها مع التخرج هذا العام.
ضاقت الدنيا بأم البنات, وعندما قررت تتخلص من بعض العبء قامت بتزويج خريجة الإعلام لشاب حاصل علي دبلوم تجارة ويعمل سباكا, لمجرد التخلص من مسئوليتها ولقمتها, وطموحها المهني وتبقت طالبة التمريض.
ثم أصيبت الأم بإنزلاقات غضروفية متعددة في عنقها, تمنعها من العمل الذي كانت تقوم به في رفع جوال العبايات علي راسها والطواف به في الأسواق لجلب الرزق, فصارت عاطلة عن العمل, وكل الاعتماد علي الشهرية التي تصلهن, والتي صارت لا تكفي مع ارتفاع تكاليف العلاج والمصاريف, لم يحل زواج الفتيات أزمة الفقر, فواحدة تلو الأخري تعود لبيت أبيها بخيبة الأمل, ولا مفر من الأقدار.
ويبقي السؤال.. هل كريستين واخواتها فقط الأبطال الوحيدون لقصص المعاناة؟ أم أن روايات الفقر والمرض والظلم علي كل عتبة تنتظر لحظة الخلاص؟