نكتب للمرة الثالثة عن ناهد صاحبة الجراحة الدقيقة في العامود الفقري, التي كتبنا عنها قبل شهرين تحت عنوان الأحلام المعلقة علي بوابات العمر المحترق, ثم أعدنا نشر قصتها في عدد الأسبوع الماضي تحت عنوان المعلقون فوق صليب التجارب, وفي كل مرة نفترض أن هناك أشخاصا يقرأون للمرة الأولي عن حالتها, فنعيد سرد التفاصيل, لنتمكن من مساعدتها, أما اليوم وإذ نقف أمام تطور جديد في حالة ناهد, نذكركم بتفاصيل حالتها ونضع بين أياديكم ما تمر به من ضيقات متتالية, وكلنا رجاء في دعمكم وصلواتكم, ليستجب لنا الرب ويردها لأسرتها بعافية وسلامة, بعد أن أجريت لها الجراحة, حقا المصائب لا تأتي فرادي.
ناهد -اسم مستعار للسرية- امرأة أربعينية, تزوجت في عام 1997, أنجبت ثلاث بنات, عاشت مع زوجها علي الحلوة والمرة, لكن كأس المر طافحة ولا حلاوة, ساقيها إلي حد الإغراق, فبالرغم من تغلبها علي الشدائد والمحن, التي بدأت بولادة ابنتها الوسطي -الآن في مرحلة الثانوية العامة- بنصف بصر, بعين واحدة, ثم تدهور حالة زوجها الصحية, وإصابته بجلطة كبري في المخ, إلا أنها ظلت صامدة طوال السنوات الماضية.
فمنذ عام 2007 وحتي إصابتها الشديدة في العامود الفقري, كانت هي المسئول الوحيد عن الأسرة, إلي أن شبت ابنتها الكبري, والتحقت بعمل في إحدي المحال التجارية, تساند والدتها وتتقاسم جرعات المر من ذات الكأس الطافحة, لكنها لم تستطع أن تتقاسم معها حمل والدها وتحميمه, وقضاء الحاجات الأساسية لنظافة جسده, ذلك الزوج المصاب بشلل نصفي, منذ 14 عاما تقريبا.
أربعة عشر عاما لا يقوي علي الحركة بمفرده, ولا علي الحياة في مجملها, كانت ناهد خلال تلك الأعوام, هي الأب والأم, كتبنا عنها من قبل كيف كانت: تصطحب بناتها وتطوف به علي المشافي الحكومية, تتوسل إليهم حلا أو جلسات علاج طبيعي, علها تؤتي بثمار الشفاء, لكنها أحلام مؤجلة.
ومرت السنون وناهد معلقة علي صليب المسئولية, فتيات صغيرات, ولا معين. رجل قعيد ولا معين, خففت كأس المر بالرضا والسعي بحثا عن الرزق, في منازل المتعاطفين معها, تعود للمنزل منهكة تتطلع إلي نفسها, وإذا بجسد مسترخ وكأنه جثة, لكن يجذبها الحنو والحب من يديها وقدميها, يجرها نحو زوجها, تقتاده إلي دورة المياه الضيقة التي لا تتسع للمقعد ذي العجلات, تسحبه من فوقه, تحمله في أحضانها, تغسل جسده وتهتم بنظافته, ثم تعيده لسريره آمنا, تلقي نظرة علي نفسها في المرآة, لتجد علي أكتافها حملا زاد فوق الحمل, وقد تحولت إلي رجل البيت, هكذا عاشت وهكذا ربت الفتيات الثلاث, وهكذا قامت برعاية زوجها حتي الآن.
ظلت معلقة علي صليب المسئولية, صليب التجارب, حتي حط جسدها, فما عادت المرأة الفولاذية التي تحمل زوجها لتحممه, ولا المرأة القوية التي تغادر منزلها كل صباح لتمارس أعمالا شاقة وتعود بنفقات تعليم ومعيشة أسرتها, أصيبت بانزلاق غضروفي في ثلاث فقرات, ولم يكن الأمر طبيعيا فبعد الإشعات واستشارة الخبراء في مجالي جراحة العظام والمخ والأعصاب, أجمعوا علي احتياج ناهد لجراحة دقيقة في العامود الفقري.
أوقف الانزلاق كل نشاط يمكن أن تقوم به, وتولت الابنة الكبري رعاية والدها وأخواتها, تحدد موعد الجراحة وتمت الأسبوع الماضي, بتكلفة تم تقديرها بمبلغ 45ألف جنيه.
تبرع الطبيب بخمسة آلاف, فصارت التكلفة 40ألفا, تم جمع المبلغ عن طريق الكنيسة وعدة مؤسسات, وعدد من أصحاب القلوب الحنونة, وأجرت ناهد الجراحة, ثم غادرت المستشفي, وحينما وصلت إلي منزلها بعد نجاح الجراحة, حدثتني ابنتها الكبري, لا تعرف ماذا جري لوالدتها, حيث أصيبت بحرارة مرتفعة مستمرة, إسهال وقئ, وهي مازالت لا تتمكن من الحركة, هزال شديد, وهي قيد المضادات الحيوية, طلب الطبيب الفحوص اللازمة, الشكوك تتمحور حول إصابتها بفيروس كورونا خلال إقامتها في المستشفي, ما باليد حيلة, كورس علاج كوفيد لن يمثل إضافة دوائية بقدر ما يمثل المرض تهديدا لحياتها, فأين المفر؟
كلما حاولت ناهد الهروب من العجز تواجه الموت, وبعد أن كنا نبحث عن سبيل لتدبير نفقات الانتقال للعلاج الطبيعي, ونفقات رعاية الأسرة التي بلا عائل تماما, صرنا نصلي من أجل سلامة ناهد, لتعود لبناتها قبل أن يفترسها كورونا, والآن وقد تركت الابنة الكبري عملها, واقترضت ستة آلاف جنيه.
وتفرغت لرعاية الأسرة, صارت الوريثة الشرعية لصليب المسئولية, وصرنا نبحث عن الذين يمكنهم حمل الصليب معها, لأنه ما من أحد يستطيع إنزال المعلقين من فوق الصليب إلا بعد نفاذ المشئية الإلهية, نبحث عن الذين لديهم استعداد لمساعدة طويلة المدي لأسرة مكونة من خمسة أفراد, أب وأم عاجزين, وثلاث بنات في حكم اليتيمات بل هن اللواتي يقمن الآن بالأدوار الوالدية, بدلا من البحث عن مستقبلهن.