هل تخيلت الحياة يوما في مربع أضيق من مساحة حجرة تحت السلم؟هل اختبرت الضيق والضجر واختراق العيون لكل ما تفعله, أولئك الذين اختبروا ذلك يسمعون ويشاهدون مواجعهم تتحول إلي أرقام, وآلامهم تختزل في تقارير ويضرب الرخص في عمق كرامتهم الإنسانية, وتستخدم أوجاعهم للارتزاق, وجوعهم وقودا للمعارك,وعوزهم سلما يصعد فوقه أصحاب النفوذ, والطامعون سياسيا دون أن تتغير أحوالهم, فالجياع يملأون الشوارع, وبطونهم خاوية إلا من عصارة الهضم القارصة,ثم يظهر السياسيون ويتحدثون عن الكرامة الاجتماعية وغير مدركين أن الذين تتخلص أزمتهم في سداد جوع أبنائهم لاتتعرف آذانهم علي بصمة الكرامة, فحياتهم سلسلة من الاحتياج, والضيق.
عم ناصر نموذج لهذه السلسلة, يتردد علينا منذ عشر سنوات, حينما زارني في المرة الأولي نظرت إلي وجهه ثم إلي بطاقة هويته, وقارنت الوجه بالعمر المدون فيها, لم أصدق أن هذا الرجل عمره58 سنة, واليوم قد تخطي الثمانية والستين,أتذكر جيدا ما كتبته فوق هذه المساحة حينها:رسم الشقاء تجاعيد وجهه, حفر الحرمان شقوقه عليها,عينان غائرتان حولهما سواد حالك بلون سنوات البؤس القاتمة عمامة غطس فيها جبينه, فلم يعد ظاهرا منها إلا الحاجبان جلباب واسع ينضح فقر السنين منه.
عم ناصر أجري استئصالا للكلية اليمني بعد فشل عمليات الغسيل الكلوي التي استمرت لمدة ثلاث سنوات, ثم أصيب بانزلاق غضروفي ولايتمكن من العمل كان يعمل حارسا لأحد العقارات ويعول ابنين وابنة, جميعهم يحيون في غرفةتحت بير السلم ذهبنا آنذاك وعايننا المكان عبر بحث حالة واف,توفيت زوجته, وتزوجت ابنته, وابنه الأكبر الذي يعمل بائعا في أحد المحال, أما الأصغر فيعاني من شلل أطفال ضاقت الدنيا بعم ناصر, قرع كل الأبواب, الكنائس والمساجد وبابافتح قلبك لكن يبدو أن أمواج التجارب الهائجة تحتفظ بسفن المعاناة.
فحال ابنه الأكبر لم يكن أفضل من حاله,ظل يتخفف من مسئولياته تجاه والده حتي انقطع عنه تماما, أما الابنة المتزوجة فأصيب زوجها بكسور وجروح عميقة بسب تعرضه لحادث, وظل تحت العلاج لأكثر من عام, انكسر عليهم الإيجار تم طردهم من السكن فعادت الابنة وأسرتها إلي تحت السلم لا أعلم كيف احتملوا الحياة هكذا؟لكنني أتذكر جيدا الوصف الذي دونه الباحث الاجتماعي في بحثه عنهم حينما ذهب لزيارتهم ولايمكن أبدا أن أنساه, إذ كتب:الناس دي عايشه في كابينيه.
عملت الابنة في نظافة الحمامات فيكافيه شهور طويلة مرت حتي تماثل زوجها للشفاء لكن المسافة بين الفقر والغني, بين المرض والصحة, هي ذات المسافة بين الأصيل وناكر المعروف, بمجرد أن استرد صحته انقلب عليها,وأساء معاملتها.
وأبدي شكوكه في أخلاقها بسبب خروجها للعمل, وكأنه اكتشف فجأة أنها تعمل والذي كان مقبولا بالنسبة له فوق فراش المرض, بل ويقتات منه, صار ملفوظا حينما جلس علي عرش الصحة, وتمرد عليه حتي دون أن يوفر بديلا وانفصل الزوج عن الأسرة ورفض الإنفاق علي ولده وابنته.ثم اختفي.
استسلمت ابنة عم ناصر لمصيرها, فلا وقت للمعارك والتفكير والعناد لا وقت إلا للبحث عن لقمة العيش, ولأن المصائب لا تأتي فرادي, تضاعفت الكوارث أصيبت ابنتها بحمي مفاجئة, ذهبت لإحدي مستشفيات الحميات كان التشخيص التهابا في اللوز يبدو أنه لم يكن كذلك, وساءت حالة الصغيرة إلي أن ماتت, لم يتبق للأم المنكوبة سوي أخ مشلول, وأب عاجز, وابن مولود بثقب في قلبه, لكنها مازالت تعافر مع الحياة وتحيا من أجل ابنها.
مع طلوع شمس كل يوم ينظر عم ناصر لولده ولابنته وحفيده, فلا يجد في وجوههم سوي نسخ مكررة من مأساته, يفكر كيف يساعد ابنته في سداد المصروفات الدراسية لولدها الذي يدرس في المرحلة الابتدائية وصار مديونية علي ابنته فالحالة الصحية للطفل اقتضت الحاقه بمدرسة خاصة, تكلفتها السنوية حوالي أربعة آلاف جنيه, وصلت والدته لنهاية مطافها مع الشقاء لم تعد تقوي علي جلب مزيد من المال, للعلاج والمعيشة, والدراسة, وقسط السكن الذي منحته إياهم الحكومة منذ عامين وكأن الظروف عقدت اتفاقا ضد الغلابة وفي غياب الصحة وتدهور القدرة, وتخلي الزوج بل واختفائه ربما تعود كل الأشياء لتحت السلم مرة أخري إذا لم نستطع تخفيف الحمل عن هذه الأسرة.
موسم العطاء
يستغيث رواد افتح قلبك, بأيادي الحب, قبل حلول العيد, إنه موسم العطاء الذي يحتاج فيه الجميع لقلوب حنونة تعطي المعوز بلا شروط وتمنح المحروم بلا تأنيب وتهب الستر لفتيات انتظرن طويلا لإتمام زيجاتهن.