لم ينج أحد منا من تلك البوابات العملاقة,بوابات الصبا الفائت والأحلام التي لم تر النور والشباب الذي ولي دون أن نحقق ما رجوناه, حلم قد يفلت ويمر, تتعلق باقي الأحلام فوق البوابات, الشيب يحل, يشيخ الحلم, يحترق العمر, تتبدل كل الأمنيات, تهاجر أحلام كانت للذات, تستوطننا أحلام صغارنا, فيصير الحلم حملا ولذته لهيبا موجعا إذا ما عجزنا عن تحقيقه لهم, خاصة إذا كان الحلم بسيطا, وللبسطاء عادة أحلام بسيطة جسدتها ناهد- امرأة أربعينية- حينما جاءتني لتروي ما حل بها, فوق وجهها الملائكي تربع سلطان الجمال, وبين نبرات صوتها المجهد اختبأت المعاني الحائرة تعلقت في ذراع شابة, تستند إليها كي تستقيم وقوفا أو تحركا, إنها ابنتها ذات العشرين عاما, تعضدها تتقاسم معها الأحمال والأحزان, لكن للأحزان ذيلا طويلا لاينتهي بنهاية الصبا والطاقة والصحة والقدرة علي المواجهة ربما يلتف ليخنق الجميع, حارما إياهم حتي من آخر قطرات الدموع.
تزوجت ناهد في عام1997, وأنجبت ثلاث بنات, الوسطي-الآن-في الثانوية العامة, حينما أضئيت أنوار الحياة أمام عينيها رأتها بنصف بصر, ولدت لتري العالم بعين واحدة, بينما شاءت الأقدار أن ينطفئ نور الأخري, بعد سنوات قليلة أجرت ناهد لابنتها جراحة زراعة عدسة لتتمتع بالشكل الطبيعي للعين وتنتهي صلاحية هذه الجراحة عند سن الثامنة عشر وقد بلغته لكن ما باليد حيلة إنها أحلام مؤجلة.
لم تكن أزمة العين الواحدة هي الأقسي فما حدث لزوج ناهد كان أشد قساوة بدد كل الأحلام مثل كاسحات الثلوج, تخلص الكرب من الأمان في حياتها تهديد من كل جانب فالعائل معتل البدن والفتيات صغيرات ولا مورد رزق ولا حماية بعد أن أصيب الزوج بجلطة كبري في المخ,أدت إلي شلل نصفي فلم يعد يقوي علي الحركة بمفرده, لم يعد يقوي علي أي شيء لم يعد يقوي علي الحياة في مجملها, كانت تصطحب بناتها وتطوف به علي المشافي الحكومية, تتوسل إليهم حلا أو جلسات علاج طبيعي, علها تؤتي بثمار الشفاء, لكنها أحلام مؤجلة وما العجب فالحلم غالبا يأتينا مع إيقاف التنفيذ, ومرت السنوات وناهد معلقة علي صليب المسئولية.. فتيات صغيرات ولا معين.. رجل قعيد ولا معيل.
خففت ناهد كأس المر بالرضا والسعي بحثا عن الرزق, كانت تنظر إلي شبابها فتري وجه زوجها الذي يذكرها بأن شبابها ذهب ولن يعود, تتطلع إليه وإذا بجسد مسترخ وكأنه جثة فيجذبها بها الحنو والحب من يديها وقدميها يجرها نحوه تقتاده إلي دورة المياه الضيقة التي لاتتسع للمقعد ذي العجلات تسحبه من فوقه تحمله في أحضانها تغسل جسده وتهتم بنظافته,ثم تعيده لسريره آمنا.. تلقي نظرة علي نفسها في المرآة لتجد علي أكتافها حملا زاد فوق الحمل, وقد تحولت إلي رجل البيت, تنادي علي الأنثي ولا تجدها.. طرشاء تلك المرآة التي لاتستمع لنداءات الشابة المنكوبة.
هكذا عاشت وهكذا ربت الفتيات الثلاث وهكذا قامت برعاية زوجها حتي الآن, إذ كانت تتولي غسيل السجاد والخدمة في منازل المتعاطفين مع ظروفها وتحولت الآلام للذة الإنجاز في كل مرة تتمكن من تجاوز العقبات, وتسلم إحدي بناتها لمرحلة تعليمية أعلي, فالكبري الآن في العام الثاني الجامعي, والوسطي في الثانوية العامة, والصغري في الصف الأول الثانوي, شارفت الدروب علي الانتهاء لكن ذيل الأحزان يطاردها, يلتف حولها يخنق ما تمكن من الفرار منه قبل أعوام.. حط جسد ناهد, فما عادت المرأة الفولاذية التي تحمل زوجها لتحممه ولا المرأة القوية التي تغادر منزلها كل صباح لتمارس أعمالا شاقة وتعود بنفقات تعليم ومعيشة أسرتها,أصيبت بانزلاق غضروفي شديد لم يكن الأمر طبيعيا فبعد الأشعات واستشارة الخبراء في مجالي جراحة العظام والمخ والأعصاب أجمعوا علي احتياج ناهد لجراحة دقيقة في العمود الفقري, حتي العودة للشقاء صارت أحلاما معلقة علي أبواب مهترئة لاتقوي علي الصمود أمام الدفع المستمر القادم من رياح التجارب.
يا لهذا العمر المحترق ألا تمهلني وصلة قصيرة أوفي فيها بنذوري لبناتي إنه لسان حال ناهد, بعدما علمت بضرورة إجراء الجراحة, كانت تترجي من الله أن تعبر المرض دون محطة ركود طويلة أوقف الإنزلاق كل نشاط يمكن أن تقوم به, وتولت الابنة الكبري رعاية والدها وأخواتها, وحاليا تحيا ناهد في حيرة أيهما تفعل.. تحيا بآلامها ولا تستطيع العمل أو الحركة؟ وإذا استسلمت لهذا الخيار من أين لها بالرزق والإنفاق؟ أم تتخذ مغامرة الجراحة, وحينها قد يكون مصيرها هو ذات مصير زوجها, فيصير الاثنان مقعدين؟ وحتي لو قررت المغامرة تكلفة الحراحة تصل إلي 40 ألف جنيه, هذا بخلاف فترة طويلة تحتاج فيها إنفاقا شهريا علي أسرتها حتي تتعافي, هذا إذا تعافت, الحيرة تضنيها ولا تستطيع اتخاذ قرار إلا في ضوء المساعدة الطبية والمادية التي سترد إليها.