ماذا لو أن حال المريض لن يسمح بانتظار طابور التأمين الصحي, وإجراءات الروتين المملة التي تصير قاتلا يحمل مشروعيته كاملة لارتكاب جريمة القتل ما دامت تخدم الروتين. ماذا لو إنك كنت تعمل لأكثر من ثلاثين عاما في إحدي الوظائف الحكومية, ثم وجدت نفسك أمام محنة المرض عاجزا عن توفير مبلغ تركيب دعامة لضخ الحياة لقلبك مرة أخري. ماذا لو وجدت نفسك مترجلا كل يوم لأقرب مشفي حتي تستخدم أنبوب الأوكسجين بعما فشلت شرايينك عن حمل الهواء إلي أنفاسك فرديت إليك فارغة مكتومة لا تشفع مرارة أيامك لالتقاطها إلا خاوية. ماذا لو شعرت أن الموت أرخص من العلاج, فكل جنيه أسرتك الصغيرة أولي به من إنفاقه علي فواتير المشافي, وأتعاب الأطباء ماذا سيكون اختيارك؟
هذا حال عم نجيب الذي جاء إلي باب افتح قلبك حاملا أوراقه وأشعاته وتحاليله التي يجوب بها القاهرة من شرقها لغربها يوميا منذ أسبوع مضي حتي أضاف الطواف لشرايينه هلاكا فوق هلاكها.
جاء يستغيث أنا عندي 65 سنة وعلي المعاش, معاشي يادوب بيكفيني أنا وأولادي أكل وشرب وتعليم وإيجار ومياه ونور, وغاز ومستورة جدا الحمد لله عايشين كويس. لكن إللي ماكانش في الحسبان أبدا هو المرض, من كام يوم تعبت جدا في نص الليل, ماكنتش قادر القط نفسي نهائي.
تصورت أنها كورونا, جرينا علي المستشفي بعد قياس نسبة الأوكسجين تم تركيب أنبوب أكسجين لفتح النفس واتكرر الموضوع أكتر من مرة, لكن مفيش أعراض كورونا, لكن المرة دي قلت هاروح لدكتور ومش هاروح مستشفيات, ولما روحت للدكتور قال لي إن قلبي تعبان, وإزاي سبت نفسي كده, وإني محتاج قسطرة ودعامة علي وجه السرعة.
طبعا ماصدقتهوش, خرجت من عنده روحت لدكتور تاني, وعمل رسم قلب ورسم بالمجهود وكل الفحوص ووصل لنفس النتيجة, وقال لازم علي وجه السرعة وبلغني أن الجراحة هاتتكلف 30 ألف جنيه. صرخت في وشه ده أنا أموت أرخص الدكتور ضحك وقال لي: للأسف مفيش أقل من كده وإحنا تحت أمرك لما تكون جاهز بلغنا.
ويكمل عم نجيب حديثه: خرجت من عند الدكتور الدنيا سودة في وشي أجيب منين 30 ألف جنيه , ولو سبت نفسي جايز الحالة تتدهور. المشكلة مش في إني ممكن أموت. المشكلة إني أعيش وأغلب مراتي وعيالي ويلفوا بي علي المستشفيات ويشحتوا علشان يعالجوني لو الموضوع كبر عن كده.
روحت لمستشفي التأمين الصحي, بلغوني إني هاخد دور, فقلت لهم دور إزاي ده التقرير إللي معايا بيقول علي وجه السرعة. قالوا لي مالناش دعوة لازم تيجي تكشف هنا طيب الدكاترة إللي هنا مواعيدهم إيه, فقالوا روح أسأل وشوف المهم لقيت نفسي من موظف لموظف تايه, ولا ينفع أستني ولا ينفع أكمل, ولا ينفع أعتمد علي جهة يومها بسنة, من حقي أخاف علي نفسي من حقي أعمل العملية في مكان يحترم إنسانيتي, أنا معايا عشر آلاف جنيه أول عن آخر كنت محوشهم للزمن خدوهم واتصرفوا ساعدوني بسرعة أنا خايف أمرمط ولادي معايا.
عم نجيب له كل الحق في طلب علاج آمن محترم, له الحق في حفظ إنسانيته, وآدميته واللحاق بصحته قبل فوات الأوان, له الحق في الإسراع وعدم انتظار إجراءات الروتين والتأمين الصحي التي تتسبب كثيرا في ضياع الناس, فجراحة تركيب الدعامة ليست سهلة فتركيب دعامة للشريان التاجي, وإجراء فتح الأوعية الدموية الضيقة أو المسدودة الشرايين التاجية من خلال الذزاع, عبر أنبوب رفيع (قسطرة) وأدوات أخري عبر الأوعية الدموية الرئيسية للوصول إلي القلب, أو عبر الفخذ. تثير المخاوف والهلع في نفس المريض الذي قد يصاب بأزمة قلبية من الخوف أكثر من المرض.
قصة عم نجيب ذكرتني بواقعة نشرنا عنها مرات متتالية لشاب يدعي محب, تحت عنوان درويش الغلابة ذهب لمستشفي التأمين الصحي بتقرحات في ساقيه بسبب مشاكل في الأوعية الدموية, وهناك قرروا بتر إحدي الساقين, وحينها استنجد محب بنا, مرعوبا لأنه يعلم أن ساقه لا تحتاج للبتر, وكأنهم يخيفوه للتخلص منه.
ذهبت إليه, وعلمت حينها أنهم علي وشك إجراء الجراحة, لكنني لم أقتنع, وكما يختطف اللصوص طفلا اختطفته من وسطهم علي كرسي متحرك.
ضربنا الروتين في عقر داره, وحملناه للمستشفي الإنجيلي, المجاور لمستشفي صيدناوي, وهناك ظل يتلقي العلاج لمدة شهر تقريبا خرج بعدها من المستشفي سليما معافي, علي ساقيه.
لن نترك عم نجيب ليكون النسخة المكررة من محب, ولا ليكون ضحية الإهمال أو الروتين لن نترك الرجل, لن نكرر المأساة, فحينما تنهدم جمهورية الظلم يمكننا البحث عن الحقوق الضائعة, لكن حتي يأتي هذا الحين علينا أن نفعل بأيادينا ما يمكننا فعله من أجل المرضي والمتعبين والمحتاجين والمحرومين الذين يلجأون إلينا آملين في السند لسنا السند, لكن الله يعمل في كل ذراع تتكل عليه.