تشتد المحنة، تعبر بالتعذيب تفاصيل جوارحنا، تصرخ فينا أمانينا، تستدعي من يسكب فوق الجرح الراحة؟ من يحسم معركة الألم الوحشي وبالموت يصافحنا؟ من يرحم إنسانيتنا ويحجب عنا الغول الهمجي القابع في قاع ضميره؟ لا أحد.. الكل تشدق بمبادئ معدومة في عمق حياته، الكل تهافت، خلع حياء الجرم الكامن في أعماقه، وتفاصيل الشهوة، وخطايا صباه وزلاته، وتسابق وكلاء الله في الأرض على تخطيها، إنها “سارة حجازي”.. قالوا ما قالوا، لكنهم تباروا في سباق الزيف، وتركيب الأقنعة لإثبات الفضيلة تحت دعوى أن ”سارة حجازي” ابنة الثلاثين، تدافع عن حقوق مثليي الجنس، نهشوها حتى الانتحار ولم يلتفتوا إلى أن الله خلقنا جميعا ولم يسيد علينا أحد ديانا.
ماتت ”سارة” واختارت هدوء الموت بإرادتها، لتتخلص من ضجيج الحياة التي وصمتها عبر بعض النهيشة الذين أقحموا أنفسهم في أدق تفاصيل حياتها تحت دعوى الفضيلة ومنع الرذيلة، بالرغم من وجود قطاع في المجتمع يغمض عينيه عن زنا المحارم، ووجود حالات في المجتمع من قبيل الأب الذي اغتصب بناته، والأشقاء الذين أجبروا شقيقتهم على ممارسة الجنس مع واحد منهم كل ليلة. وسمعنا مراراً عن الأم التي سقطت، في عشق زوج ابنتها فضبطتها الإبنة في ذات الفعل.. وسمعنا عن رجال يصطحبون نساءهم إلى الأصدقاء لممارسة الجنس طمعاً في مزيد من اللذة وإشباع الشهوة، فضلاً عن قطاع آخر تنخر الخيانة في أساسيات بيوته، إن لم يكن بالفعل فبالقول أو الفكر أو الرغبة. هذه الأمثلة ليست من عندي، ولكنها قصص معلومة للجميع، ومنشورة تفاصيلها على صفحات أخبار الحوادث، تبكينا كل يوم.
بحكم مهنتي استمع كل يوم لقصص تفضح سلوكيات إذا رويتها سيرجمونني مع أبطالها، سلوكيات لا علاقة لها بالمثلية، لكن الفارق الوحيد أن أبطالها لا يعلنون، ناهيك عن الذين خلقوا بتركيبة جسدية تجافي تركيبتهم النفسية، ذكر في جسد أنثي والعكس، ولا ذنب لهم فقد حدث لهم اضطراب ما في نموهم الجنسي، فتوقف عند مرحلة معينة يكون الميل الجنسي فيها نحو ذات النوع.
وفي حين أن الدكتور أوسم وصفي المتخصص في علاج المثليين وهو معلم ديني ومدرس في كلية اللاهوت الإنجيلية أيضا، أوضح أكثر من مرة عبر منابر إعلامية مختلفة، أن المجتمع يضفي الوصم على المثليين, ويتصور أنهم اختاروا هذا طريقاً، مثل المدمنين مثلاً، ولكن تلك خرافة كبيرة.
الحقيقة أن المثلي ولد باستعداد وراثي وهو الحساسية الشديدة، ويضاف إلى ذلك بعض العوامل الأسرية، كما هذه المثلية كلنا نمر بها في مرحلة معينة من العمر، وهي ليست تطورا جنسياً، ولكنها تطور وجداني نلاحظها من عمر 3 سنوات وحتى 14 سنة وتعرف بمرحلة المكون الجنسي التي يكون فيها الطفل لم يصل لمرحلة البلوغ بعد.
ورغم وجاهة تحليلات الدكتور أوسم، إلا أن قطاعاً عريضاً من المجتمع يرفض الإقرار بها، ويجلدهم ويطالبهم بالتواري والإخفاء وليس التعافي.
وبالرغم من أن المثلية الجنسية ليست جريمة في مصر، إلا أنها تدخل تحت طائلة القوانين التي تمنع الفكر المنحرف والترويج للفجور والأعمال المنافية للآداب العامة، ولا أعلم ما علاقة الأعمال المنافية للآداب بأناس اختاروا أو ابتلوا باضطراب يسير علم النفس الحديث على مسار تفسيره وتصحيحه.
وأثبتت الدراسات أن 20% منهم يتعافون، طبقاً للدكتور أوسم وصفي، وبالرغم من كل ذلك اتهمت ”سارة” في قضية علم قوس قزح، أو قضية الرينبو، بالترويج للفكر المنحرف في أكتوبر 2017، لأنها رفعت علم قوس قزح وهو شعار المثلية الجنسية في حفل غنائي لفرقة مشروع ليلى اللبنانية, وكان ذلك في سبتمبر من نفس العام. ”سارة” التي رغم نفيها لتلك الاتهامات، وإقرارها أنها لوحت بالعلم فقط تضامناً مع المثليين، إلا أنها ظلت قيد التحقيق لمدة شهرين، وتم الإفراج عنها بكفالة في يناير 2018. ولم يكن من الممكن أن يتركها أولئك الذين اعتادوا مشاركة الله في وظيفته -محاسبة الناس- وباسم الدين والأخلاق تم نهشها، فسافرت إلى كندا، وبعد أن أصيبت ”سارة” باكتئاب حاد بسبب نهش تجار الفضيلة فيها، وفي عائلتها، بدت الهجرة موحشة ولم تكن هي راحتها، ولا تخلصت ممن نهشوها.
يبدو أننا نترك المجتمع الذي يجلدنا لنحمله معنا في غربتنا، لأن الذين يتشدقون بالفضيلة في العلن ويمارسون الفجور في الخفاء، لا يكفون عن ملاحقة الحياة الخاصة للناس ولا يكفون عن التحريض ضد المدافعين عن حقوق الإنسان التي أولها الحق في التعافي، وقبول الذات لحين حدوثه، حدث أو لم يحدث، ليس من حق أحد التدخل، إنها حقوق خاصة جدا، هذه الحقوق لها سوق واسعة لدى من يؤمنون بإنسانيتهم وضعفهم واختلافهم ولها أيضا سوق واسعة لدى الأصحاء نفسياً خاصة فيما يتعلق بموضوع الجنس.
فيامن لاحقت ”سارة” وستلاحق كل سارة، أنت فعلياً لا تلاحق أحداً، فملاحقتك تلك ليست دفاعاً عن المبادئ التي تدعي امتلاكها، ولكن دفاعاً عن صورتك الذهنية أمام الآخرين، شعورك الخفي الذي يأبي الهجوم على شخصك لكنه يتقن الهجوم الممنهج على الآخر، وكأنك تهاجم نفسك في شخص الآخر، لأنك لن تستطيع مواجهة نفسك فتتجه إلى الآخر الأضعف، تنسفه، تنهشه، تنتقم منه، توقع به العقوبة التي في داخلك تتمنى أن تقع عليك لتستريح من شعورك الدفين بالذنب، ولا تنظر للضحية، لأنك لا ترى سوى نفسك، حتي وسط الآلام.
وهذه هي النتيجة، سارة وكل سارة تدفع الثمن من حياتها، ثمن الانهيار أمام الألم، الذي دفعها للانتحار، لذلك فإن الانتحار ليس إرادياً كما يعتقد البعض وإنما يجبر عليه الشخص بفعل ضغوط نفسية فاقت طاقة احتماله، الانتحار جريمة مجتمع ينكر فيه قطاع من الناس الحق في العيش بعيداً عن اللوم، بلا تجريح، طرقهم صواباً كانت أم خطأ، هي طرقهم، ومن منا بلا خطية؟!
من منا لا يستحق الرجم فوق منصات العدالة الضميرية، من منا ليس لديه سر يخشى إذاعة تفاصيله؟!
حينما يحتل الألم مساحات جرفوا فيها الأمل، تنهار طاقة الاحتمال، وطاقة الصبر، تتلاشى الرغبة في العيش، وتنقطع الصلة بالأرض، وترنو الروح للسماء، وينهي الشخص حياته هرباً من عذاب لا ينتهي، إذ صار أضعف من طوفان الألم، وكرابيج الكلمات، والنظرات والابتعاد وحصار الاتهامات..
انظروا ماذا كتبت في رسالتها التي سبقت الانتحار: إلى إخوتي.. حاولت النجاة وفشلت، سامحوني. إلى أصدقائي.. التجربة قاسية وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحوني. إلى العالم.. كنت قاسياً إلى حد عظيم، ولكني أسامح.
بعد هذه الرسالة، نجد أيضا من تجرد من إنسانيته لينهش في سائر المثليين، وكل من تعاطف مع واقعة انتحار ”سارة حجازي” وكأنهم مروجون للمثلية، وغاب البصر والبصيرة عن المواجدة التي تنتاب الذين ما زالوا محتفظين بإنسانيتهم، المواجد التي تدفع للتعاطف وإزالة الوصم عن الضحية حتى لو كان ذلك بعد موته، فلا تحدثني عن الأخلاق والمبادئ والرحمة، والقسوة ملء أحشائك، لا تحدثني عن مبادئ الحياة وأنت قاتل بسكين اللوم ورصاص الازدراء، ومشنقة الوصم.
لا تحدثني عن الصواب، والكل مذنب، لا تلق بوصاياك الألف في وجهي، فأنا منذ الليلة الأولى لضجيج الدينونة الفيسبوكية، كسرت اللوح الحجري في وجه جميع القتلة باسم صواب الزمن المقلوب، ودناءة فجار الخفية، لم ينج أحد من فخ فجور، لولا بعض من ستر الله لترجلنا في الأرض عرايا من كل الزيف العالق في ذيل ثياب سوداء اللون بفعل جرائم لم تكشف بعد، لم ينج أحد منكم، وبكل الأحجار رجمتموها حتى اختارت سكن الموت، وكتبت قبل رحيلها بيوم واحد: أنا عايزة السما مش الأرض.
فيا حماة العفة والدين، ويا دعاة العفاف ومحتقري المثليين، لستم شركاء الله في الدينونة، فلتكفوا عن انتحال وظيفة الله الذي باسمه تحاكمون بعضكم بعضاً، وكم من جرائم ترتكب باسمك يارب!! فكل سافكي الدماء وقاطعي الرؤوس ومغتصبي النساء لم يكونوا مثليين ولا ملحدين، بل كانوا يدعون أنهم يحمون الدين!! ولتعلموا أن المثلية ليست هي الصورة التي تفتح جنابك موقعاً إباحياً لتراها وتمعن في تفاصيل الأجساد لتداعب حسك الغريزي أو تؤجج شهوتك المنضبطة في العلن المنفلتة في الخفاء، إنما هي صورة نفسية بالدرجة الأولى تتعلق باضطراب الهوية الجنسية النفسية للشخص، وبعض الدراسات قالت: إن لها صورة جينية أيضا تتعلق بجينات معينة من الناحية البيولوجية، لكن للأسف فِهم الناس للمثلية يرتبط بنظرتهم الاجتماعية للأخلاق والدين والعيب، وهي أمور لا علاقة لها بأولئك الذين لهم ميل مثلي.
ولأني أكتب وسن القلم على حد السكين، فمضطرة للتأكيد على أنني لا أروج للمثلية أو غيرها من الميول الجنسية، لأنها ببساطة ميل جنسي والميل بطبيعته وتفسيره اللغوي والعلمي فطري قد يساعد العلاج على اكتشافه ونموه وتوجيهه في الطريق الصحيح، لكنني أروج للرحمة والابتعاد عن حياة الآخرين.
وفي قانون الإنسانية، لسنا في موضع الحكم، لأننا لم نجرب أن نكون في موضع الاتهام، نحن فقط في موضع الرحمة طالما سترت يداه الخزي الساكن فينا، فلنحكم على ذواتنا، ونترك كل إنسان لحياته، لأن الله لو رفع يديه عن البعض لاختلفت الأحكام.