للقسوة جينات لا تخطئ طريقها، تحملها دماء التخلي عبر شرايين تآكلت بفعل صدأ المشاعر المتراكم على جدار الذات، جينات القسوة تخرج من بئر جافة في مهمة تجويع الآخر للحب، حرمانه من القيمة، الهاب مناطق احتياجه إلى حد الصراخ، ثم تركه لمعركة الوحدة وصغر النفس، قسوة لا تعترف سوى بالأنا، ولا ترى سوى راحة أصحابها، حتى لو كانت تلك الراحة المزعومة على حساب أقرب الناس، قسوة الجينات لا توقع على عقود الوفاء، بل تتعمد تجريف أراضي الإخلاص ونزع ثمار الحنان، والباس الحق ثوب الباطل. الفرار من المسئوليات الفرار إلى أحضان من يحقق اللذة حتى لو وقتية، وفي غيبة الإرادة تغيب كل معاني الإنسانية وتطل الذات بمطالبها من شباك الأنانية لتبصق على الآخر ثم ترحل في زهو الانتصار المزيف.
هكذا عاشت وعانت الست ”فوقية” التي نشرنا قصتها منذ سنوات، تحت عنوان ”الوجع الساكت” ثم أعدنا نشرها مرة أخرى حينما ضاقت بها السبل ولم تكن تبتغي إلا اقتناء غسالة وثلاجة الحد الأدني من العيش الآدمي. ننشر عنها للمرة الثالثة إن لم يتابع من قبل، بعد أن أصيبت بكسر في ذراعها وجاءت تستنجد بمن يتحمل تكلفة الجراحة.
إنها امرأة لا يمكن أن تنسى ملامحها التي كساها تراب السنين، وجسدها الهزيل، الذي تركت قسوة الأيام بصماتها على خطاه، وملابسها القادمة من عمق العوز فلا هي امرأة من ذوات الجلباب الأسود، ولا هي سيدة تمكنها الظروف من ارتداء ما يستر عوزها عن الناظرين.
حينما رأيتها اختطفت قلبي طلتها الحزينة، ووجدتني في ضيق ما بعده ضيق.
إنها في الثالثة والأربعين من عمرها وكنت أحسبها في الخامسة والخمسين على الأقل، ليس لها حظ من الجمال، ولا من الصحة، ولا من التعليم. لديها ولدان- الأكبر عمره 22سنة ويعمل سائق توك توك، والأصغر 20 سنة يقضي حاليا الخدمة العسكرية- وحينما سألتها عن تفاصيل قصتها قالت:
اتجوزت عندي 18 سنة، كنا عايشين في البلد، مع عيلة جوزي، وكان كويس، لكن اتغير بعد ما خلفت الولدين, وبلكنتها الصعيدية البسيطة تكمل قائلة: لقيناه بيخر وبيسهر في الليالي. مش عايز يصرف علينا، مش عايز يقعد معايا، مافيش بيننا أي علاقة نهائيا لا زوجية ولا غير زوجية، ومرت أيام وأنا مستنية حاله يتعدل، مش راضية أقول لأهالينا، لكن هم شايفين بعيونهم، إهمال بيته وعياله، وجريه ورا ملذاته. بعد فترة طويلة خرج ولارجعشي! واستنيت أبو العيال كتير ولا رجعش، وبعد شوية عرفنا أنه أتلم على واحدة حلوة، أيوة حلوة أنا عارفة إني مش حلوة، ومش باعرف أقول كلام في الحب، بيقولوا حبها ومايقدرش يستغني عنها، ولأنها مش علي دينه، كان لازم يغير وأشهر إسلامه علشان يتجوزها، وعاش وياها وخلف منها كمان تلات عيال.
كنت كل يوم باتقطع، أخدوني أهلي من بيت أهله، وربوا الولدين معايا، وأنا ساكتة لا حول لي ولا قوة، لساني ساكت، وقلبي ساكت، وحالي ساكت، حتى وجعي وحزني ساكت. كنت كل يوم أبص في المراية وأقول: يارب لو خلقتني حلوة مش يمكن ماكانش هرب مني، مش يمكن ماكانش ساب الولدين. وتنزل دموعي زي النار تحرق قلبي، من الغيرة والحسرة والوجع، وبعدما أبكي ساعات أفوق وأشكر ربنا، على نعمة الرضا رغم الحزن، واستمرت حياتنا في البلد وكنا بنقضيها بأقل القليل لغاية ما العيال كبروا.
فجأة لقينا جوزي بيحاول يرجع لنا تاني من غير مقدمات سبحان الله في خلقه، جوزي إللي عاش مع زوجة تانية من دين تاني اتخانق معاها وعايز يرجع بعدما غير دينه، يا تري ليه، معقول ندم؟ معقول راجع لي بعد العمر ده كله، معقول سابني صبية وراجع لي بعدما العمر راح، لا مش معقول، وفضلت أكذب في نفسي لغاية ماشفته بعيني، وقال إنه خلاص ندمان ولازم يصلح إللي عمله.
الفرحة ملت قلبي، والعيال رفعوا رأسهم بس يا فرحة ما تمت.. إحنا في الصعيد، عارفين يعني إيه الصعيد؟ يعني لو رجع عن دينه يبقي ارتداد ويقتلوه يعني تار ونار وعراك وجحيم وعلشان كده نفدنا بأرواحنا من جحيم الانتقام، ومشينا من البلد وجينا القاهرة، لأنها كبيرة وناسها كتيرة، ولا حد داري بروحه ولا بغيره، ونقلنا العيال من المدارس ونقلنا العفش، وأجرنا شقة إيجار جديد، ونظمنا حياتنا على كده، وبدأنا حياة جديدة.
بعد شهر بالظبط قمت من النوم مالقتهوش، ودورنا عليه من جديد لكن خرج ولا رجعش، مارجعش لينا لكن رجع لها هي تاني، وزي ما أخذته مننا في الأول عرفت ترجعه ليها تاني. بس المرة دي الضربة قوية وقاسية، رجع لها بعد ما دمر حياتنا، بعد ما خلانا سبنا ناسنا وبلدنا، وبعنا حالنا وعفشنا، غيرنا سكننا، كان صعب علينا نرجع تاني البلد، مشينا هربانين، ولو رجعنا هاينتقموا مننا حتى لو هو رجع لها. خفت على عيالي وخفت منه ومنها واستمريت هنا في القاهرة.
صمتت ”فوقية” ثم قالت: أنا خايفة.. القسوة دي في الجينات.. وراثة يعني، خايفة العيال يورثوا القساوة منه، ويسيبوني لغاية ما أموت لوحدي وحيدة، محتاجة، ذليلة، منبوذة.
ثم عادت لتكمل: علشان نعيش ابني الكبير اشتغل على توك توك وأنا اشتغلت في حضانة الإيجار وحده 600 جنيه ومرتبي 400، ثم وضعت يدها اليمنى على كتفها الأيسر وتأوهت قائلة: صدقيني تعبت من غسيل السجاد والسلالم في بيوت الناس
ثم بكت ”فوقية” وعلى وجهها حمرة الانكسار والقهر والمذلة، حمرة القهر الممتزج بالحوج، اكتمال الآه الممزوجة بالألم، وجهها الملون بلون الحسرة لا ينساه سوى جاحد أو متيبس المشاعر، لا أعرف كيف استطاع زوجها نسيانه، لكن يبدو أنها كانت على حق حينما قالت: إن للقسوة جينات.
اليوم جاءت ”فوقية ” تطلب المساعدة في تكلفة الجراحة العاجلة التي يجب أن تجريها بعد إصابة ذراعها بالكسر.. وكان تشخيص مستشفى الهلال للحالة أنها تحتاج لزرع شريحة ومسامير بتكلفة 12ألف جنيه.
تواصلنا مع الدكتور مجدي مرقص استشاري جراحة العظام الذي قرر إجراء الجراحة مقابل خمسة آلاف جنيه على أن يتم عمل رد مغلق وأسلاك تحت بنج كلي، الجراحة عاجلة والأسرة ليس لديها حتى ثمن الجبيرة.