في نهاية يوم طويل مشحون بالمكالمات والرسائل، وقرب فجر يوم جديد، اتصلت بي سيدة شابة، تبكي بكاء مراً، تحاول السيطرة على أعصابها حتى تبقي لسانها غير متلعثم، بالكاد فهمت ما تشكو منه، إنها شقيقة لمريضة مصابة بكورونا، المريضة طافت المشافي، وبصحبتها زوجها الذي التقط العدوى سريعا منها، ولا مكان لقبولها، اجرت جميع الفحوص التي اثبتت وجود التهاب رئوي حاد، لكنها لم تجر المسحة الاختبارية، فلا مكان يقبل دخولها، ولا فرصة فالزحام شديد، والسيدة تعاني من سعال لا ينقطع، ولا تتمكن من التنفس.
عادت إلى منزلها تجر خيبة الأمل، دون أي شيء لا فحص ولا علاج ولا مسحة، في اليوم التالي تكرر نفس الوضع، لكن مع اختلاف بسيط أنها دخلت الطوارئ في أحد المستشفيات وتلقت جلسة أكسجين، وتم فحصها وصرف علاج لها لكن دون احتجازها في المستشفى رغم احتياجها لجهاز الأكسجين بشكل منتظم، عادت للمنزل مرة أخرى، لتنقل العدوى لكل من فيه، أصيب ابنها وابنتاها، وساءت حالة الزوج.. الجميع أصيب بالتهاب رئوي ماعدا ابنة واحدة، والحال كما هو .
اطلقت شقيقة السيدة استغاثة على مواقع التواصلالاجتماعي، تناشد فيها من يتمكن من فعل شيء، لأنها عاجزة تماما، فالخوف من التقاط العدوى يمنعها من الذهاب، لأنها وإن ذهبت لن تضيف شيئا، وكل ما سيحدث هو مزيد من الإصابات لها ولأولادها.
حينها تواصلت الشقيقة معنا، وعبر التواصل مع المريضة وتوصيلها بالأطباء، لأيام متتالية تحسنت الحالة تحسناً طفيفاً، فقرر الأطباء استمرار العلاج في العزل المنزلي، مع قياس نسبة الأكسجين.
وبدأت الأزمة الكبري، كيف يمكنها قياس الأكسجين، وهي في العزل، ولمن لا يعلم هذا الجهاز عبارة عن مشبك يوضع في سبابة اليد، يقيس نسبة الأكسجين التي اذا كانت 90 فهي مقبولة واذا زادت فهذا جيد واذا قلت فهو مؤشر على احتياج مستشفى لان استخدام أنابيب الأكسجين المنزلية لا طائل منه مع ضيق التنفس الحاد الذي يتطلب أحجاماً ضخمة من الأكسجين.
بالتواصل مع عدد من الأطباء استطعنا الوصول لفريق طبي من شباب شبرا، ارسل الفريق مندوباً للأسرة المصابة، وتم قياس الأكسجين الذي جاءت نسبته 90، حينها هدأت السيدة لأنها علمت أنها ليست في حالة الموت، لكنها للأسف لم تتماثل للشفاء، بالرغم من بدء تحسن من حولها، لكن مازال الالتهاب الرئوي يأكل صدرها.
تواصلت معي باكية: خايفة أموت، العيال لسه صغيرين، يعملوا أيه من غيري، الحالة أصلاً ضنك، جوزي سواق توكتوك خلاص قعد في البيت من يوم ما اتصابنا كلنا، يعني مافيش دخل نعيش منه، وماقدرناش نعمل اشاعات مقطعية تاني زي ما الدكاترة طلبوا، وحالتي أنا اسوأ منهم كلهم.
حتى الدكتور اللي كنت بأروح له وبيخدمنا اتصاب وقفل العيادة، الخوف ماليني والمرض أثر على حاجات تانية، المشكلة دلوقت أننا مافيش معانا فلوس مش علشان نتعالج، لا مافيش فلوس علشان حتى ناكل، خلاص استسلمت لكل حاجة مش قادرة لا أتنفس ولا أفكر، صلوا لي.
كلمات مغموسة في ماعون المرض المعجون بالفقر، وقلة الحيلة، لأن قليل الحيلة في المرض هو الأكثر تعرضا للظلم، حيث لا مال ولا نفوذ ولا علاقات ولا صحة، كلمات صادقة صادمة موجعة توقفنا في موقف العاجز، لكنها لن تستطيع أن تنتزع الأمل من صدورنا مثلما انتزع كورونا الأنفاس، حتماً ستزهر الأيام من جديد، عبر المحبة الباذلة لكل من تقع عيونهم على هذه السطور.
الشكر واجب
**مثلما كشف كورونا عورات النفوس، كشف محاسنها ايضا، وأينما وجد موضع التخلي، وجد أيضا موضع الرحمة والشفقة، والتضامن والتعاطف الإنساني، لذلك وجدت أنه من الانصاف، عرض هذا النموذج المشرف، إذ كون بعض الشباب من الأطباء والصيادلة، فرقاً طبية تتابع الحالات تليفونياً أو افتراضياً عبر الإنترنت فيس بوك والواتس اب، ويرسلون مندوباً إلى منازل المرضى المصابين بكورونا, لقياس نسبة الأكسجين في الدم وهي النسبة التي تفي بالوضع التنفسي للحالة، وما اذا كانت حرجة تحتاج لمستشفى على وجه السرعة أم يمكن استمرار المتابعة منزلياً لحين حدوث تغيرات أخرى، كذلك يتم قياس نبض القلب قبل تعاطي دواء البلاكونيل أو الهيدروكسي كلوروكين ,حرصاً على عدم حدوث الآثار الجانبية للمريض بسبب العقارين.
هذه الفرق تجوب منطقة شبرا كاملة، بل وتخرج منها في بعض الحالات الخاصة التي لم تجد من ينقذها، توصل لهم الدواء بالسعر الأصلي دون متاجرة، وتوفر المتابعة، بلا أي مقابل، هذه الفرق تتبع عددة كنائس ورفضوا ذكر أي معلومة تكشف شخصياتهم، تحية لهم، تحية لكل من يعمل لخدمة المرضى، تحية لكل من لم يخش الوباء وقدم جهده ووقته وصحته للآخرين.
تحية واجبة وشكراً موصولاً للدكتور علاء عوض(طبيب بدرجة إنسان) أستاذ الكبد والجهاز الهضمي والأمراض بمعهد تيودور بلهارس للأبحاث، الذي تابع وتواصل مع باب “افتح قلبك”،عشرات المرات، من أجل تشخيص حالات الكورونا التي تحت العزل المنزلي، والاطلاع على الاشعات والتحاليل، حتى منتصف الليل متطوعاً بلا أدني مقابل، في الوقت الذي فر فيه العديد منهم ولم نتمكن من الوصول إليهم.
وتحية واجبة، وشكراً موصولاً لكل من الدكتور باسم ظريف استشاري القلب والشرايين التاجية بمعهد القلب، لما يقدمه لباب ”افتح قلبك” من خدمات جليلة، ولما قام به من جهد متواصل مع عدد كبير من المصابين بكورونا وتحت العزل المنزلي، متطوعاً وبلا أدنى مقابل.
كما يتقدم الباب بجزيل الشكر لكل من الدكتور ميشيل يسي استشاري الحساسية والمناعة والأمراض الصدرية عن كل ما قدمه لباب ”افتح قلبك”، من استشارات طبية، عاجلة لم يكن من الممكن الوصول إليها وإنقاذ الآخرين إلا عبر تواصله معنا. وكل الشكر لكل الأطباء الذين ساعدونا ورفضوا ذكر أسمائهم.