للحرمان لغة لا يعرفها سوى من ذاق مرارتها، سوى مُلتاع آلمته مشاهد الترف وعَقَر الجوع بطنه، وللحرمان مراحل، بالأمس كان المحروم وحيداً في حرمانه، واليوم انجب اطفالاً ولدوا من رحم الحرمان، وغداً يتأبط عكازه ليرى في نفسه أباً عاجزاً عن الوفاء بالقوت اليومي لأسرته، ثم ينهي حياته تاركاً ميراثاً ثقيلاً من الحرمان، وتركة الحرمان من الهموم والامراض وتدني التعليم، تنهش اجساد وأرواح الورثة، هكذا عاشت مريم وهكذا اكملت حياتها ولهذا تخشي ذات المصير على ابنائها.
مريم.. إمرأة في الثانية والأربعين من عمرها، متزوجة من عامل في إحدى المطابع، ولديهما أربعة من فلذات الأكباد، الذين يحتاجون يومياً لما يقتاتون عليه، إبقاء لأجسادهم على قيد الحياة، اكبرهم سناً فتاة تبلغ من العمر 18سنة، وصبي عمره 16 سنة، وفتاة عمرها 15 سنة، وطفل عمره ست سنوات، الزوج يتقاضى راتباً اسبوعياً يتراوح بين 700 الى 800 جنيه، أي أن دخل الأسرة حوالي2500 جنيه، أسرة مكونة من ستة افراد، ابناء في مراحل التعليم المختلفة، وزوج يستقل المواصلت يومياً ليصل لمكان عمله، وعلى الأقل يتناول وجبة واحدة اثناء اليوم خارج منزله، وزوجة ربة منزل، حائرة ما بين العوز الشديد، والطواف على اهل الخير الذين اصبح كل منهم يتولى مساعدة بعض الافراد ولا يتمكن من زيادة العدد.
تقول مريم:” طول عمري شقيانة وحظي قليل، أبويا كان بياع سمك قبل ما يموت،وعندي ست اخوات، كنت انا اكبرهم، لما جاله المرض، نزلت اشتغل وانا عندي 16 سنة وقفت في محل ملابس، علشان ارجع جايبة له بكوا بسكوت ولا كيلو لبن،أمي ست ما تعرفش الألف من كوز الدرة، ولا تعرف تفك الخط، وبعد ما مات ابويا، اخواتي اتفرقوا وكل واحد على باب الله، واتجوزت وعشت في حال اسوأ من الحال اللي كنت فيه، والدنيا ادتني من التجارب كفايتي، وحملت مرتين بالخطأ ربنا كان رايد اخلف اربع عيال،والحياة مشيت بالعافية.
زمان كنا بنعرف نعيش بأقل دخل، وناخد شنطة البركة من الكنيسة، وحماتي تساعد معانا بالأكل، والدنيا بتمشي، لكن في السنين الأخيرة وبعد الغلاء، الأمور ساءت جداً، حتى الشوربة مابقتش اقدر اعملها للعيال، بقيت اروح اشتري لهم هياكل الفراخ، ولما حالنا اتحسن شوية، بقينا نجيب الرجول والأجنحة، اغسلها بالملح، واعمل شوربة، علشان ياكلوا، لأننا لا نقدر نشتري فراخ ولا لحم، وساعات كنت اشتري شوك السمك، اللي هو بقية السمك المخلي اللي بيخرج من المحلات.
الحرمان أكل وشرب في طبقنا، والطلة في وش العيال وهم بيمصمصوا شفايفهم لأن نفسهم رايحة لأكل ولا حلويات، بتخلق احساس بيقتلني، لكن مافيش حاجة اعملها، ساعات باروح امسح سلالم، وساعات اعمل شوية أكل وابيعهم لكن ماعنديش لا جهد ولا فلوس علشان استمر، ولا مكان اسوق فيه حاجة.
الغُلب غلبني، لغاية ما قابلت كاهن زي الملاك، سترنا وكل ما العيال يحتاجوا حاجة اقول له، فيسدد، لكن المرة دي مكسوفة، أبونا دفع كتير جدا، والبنت الكبيرة في دبلوم تجارة، ومطلوب مصاريف كتابة الاستمارة 1200 ج، دفعت منها 500 وباقي 700، فلجأت لكم تساعدونى علشان اقدر اكمل رحلة بنتي دي خلاص هاتاخد الدبلوم السنة دي، ونفس ادخلها معهد، يمكن التعليم يغير مصيرها.”
انهت مريم كلامها الموجع، وبدأت وجنتيها في الإحمرار، كما لو كانت تكتم الدماء في وجهها حتى تنهي مهمة اخباري بما يجب أن تخبرني به، لاحظت ما يجري على وجهها، وفجأة انطلقت منها صرخة مدوية، وبكاء مرير، وقالت:” انا مش عايزة عيالي يكملوا بقية حياتهم في نفس التجربة، ونفس الفقر ونفس الحرمان، عايزاهم يتستروا ومايمدوش ايديهم لحد، عايزة اطمن إن مافيش واحد منهم هايطلع حرامي، ولا نصاب، ولا بنت هاتمشي في طريق الضياع علشان تعرف تعيش، ماحدش ضامن عمره، لو انا وابوهم جرى لنا حاجة هايعيشوا ازاى ومنين، انا خايفة، والخوف ماليني، من بكرة اللي ماعرفهوش، ومن امبارح اللي ماعشتهوش، من النهارد اللي واجعني ومش عارفة اغيره، خايفة على الأربعة من الضياع.”
سيف المخاوف يجوز في نفس هذه الأم الجريحة، من فرط العوز الذي عاشته، سبف المخاوف، طويل، مسنون النصل، يذبح كل من يجوز في نفسه، لكنها مخاوف مشروعة لا يمكننا أن نطالبها بالطمأنينة، بعد ما واجهته من حرمان ممتد عبر عقود عمرها الأربعة، لكن يمكننتا فقط أن نشير الى الآخرين الذين يستيطعون طمأنتها من خلال مساعدتها، بأي وسيلة ممكنة.