من انطفاء الأمل, إلي السقوط في فخاخ اليأس, طريق طويل, يمشي الواحد منا فيه مبصرا لكنه غير مستبصر, عالما لكن ينكر في وعيه, حتي يسقط القلب في الفخ المغزولة حباله بحيل شيطانية, يسقط من فرط الألم, والاحتياج, بفعل الضغوط يكون رد الفعل جاذبا نحو هوة الهلاك, لكن لا يهلك سوي منعدمي الرجاء, فقلب حفر الحرمان من الحب فيه مجري للشقاء, وروح سيقت تحت سياط المهانة راكعة علي عتبات الخيانة, وجسد زاحم فيه الخشوع لوعة الاحتياج, فشب حريق الغرائز, ولم تعرف الإرادة كلمة لا, فمهارة الرفض الغائبة, تدريب قاس يستغرق سنوات من الجهاد.
ولأننا لم نعرف كيف ومتي نقول كلمة لا, لأننا لم نتعلم كيف نغلق الأبواب التي تركناها مواربة, فتسلل الخضوع إلينا, من الثغرات المفتوحة التي تمثل دائما مدفع القذيفة إلي الجحيم المعاش في تجاربنا, تدفعنا للتزاحم علي الطريق إلي جهنم فوق الأرض, بفعل الضعف والاستسلام, الممتزج بحالة من الإنكار لمسئوليتنا عما وصلنا إليه, جميعها عوامل تفجير الاستقرار النفسي, واستقرار الحياة الزوجية والأسرية, فتتحرق النفوس في جحيم الاضطرابات, طيف الغفران يعبر ويجتاز دون أن يلامس وجداننا, سقطت في كل ما سبق هناء, هذه السيدة ذات الثلاثين ربيعا, التي طالما احتفظت بوجه منير ينبئ بتوهج الاحتراق وليس سطوع السلام.
وحينما رأيتها, أدركت أنها تحمل العوامل سالفة الذكر في نفسها. طلت علينا هناء مصطحبة زوجها تطلب مشورة, جلس الزوجان ولم ألحظ شيئا غريبا بينهما أو عليهما, جلست الزوجة في مواجهتي, بينما فضل زوجها صابر, الجلوس فوق مقعد بعيد, فتلقائيا بدأت الحوار معها, جميلة الشكل, لكنها لم تلق حظا من التعليم, تزوجت منذ عشر سنوات, ثم أنجبت طفلين ولد وبنت صامتة تنتظر المبادرة, لتروي المختبئ في عينيها وليس بياناتها, لكنها لم تبح بشيء, ثم بدأ الزوج يشرح حال الأسرة, وحينها اكتشفت أنه كفيف البصر, عمره 35 سنة, تعرض لضعف البصر يوما بعد يوم, حتي كف بصره, وهو أمر حدث لوالده أيضا.
عشر سنوات, كانت الحياة خلالها عسيرة مع الظروف التي تعرض لها الزوج, فتوقف عن العمل بعد أن كان عاملا في مغسلة, اضطرت هناء للبحث عن عمل لتساعده, فالتحقت كمشرفة في أحد دور الحضانة, تقول هناء:نزلت اشتغل في حضانة, وبعد فترة فوجئت أنه بيشك في سلوكي, وبيوصي ابننا يراقبني وينقل له تحركاتي وكلامي وكل شيء, طبعا اتصدمت, وبدأت أصرخ في وشه, وأخرج كل إللي جوايا والحياة بيننا بقت مستحيلة, لأن الشك مش بيسيبه.
في صوتها رنة الكاذبين, وفي عينيها لمعة المحسورين فأطبقت شفتاي, وأدركت أن صنما ضخما يقف بينها وبين الزوج الغيور, فهل هو بالفعل غيور, أو شكاك, أم أن هناك خلف الاتهامات قصصا مغايرة, قررت التفتيش في الماضي فطلبت الالتقاء بكل منهما منفردا, وبدأنا بجلسة مع صابر الزوج, تحدث خلالها عن ظروف المعيشة, وكيف ضاق الحال به بعدما فقد بصره, وغيرته علي زوجته ورفضه لعملها لأنه يخشي عليها من غير الصالحين, لكنه لم يبح بشيء آخر, كان هادئا جدا, وبدا عليه حرصه وتمسكه بزوجته مهما كانت الأحوال.
أما جلسة هناء حملت ألما عظيما قد لا يبرر مزاحمة الماضي للمستقبل في كيانها لكنها معاناة الصراع, قالت الزوجة في أسي ودموع: في كلام ماقدرش أقوله قدام جوزي, علشان مايتجرحش قدامك, لكن الحقيقة أني مش باحبه أنا باكرهه, لأنه بيضربني, وبيشك في, وأتجوزني غصب عني, وبيمارس معايا العلاقة الزوجية بالقوة, أنا باكره نفسي وجسمي لأني مضطرة أوافق علي رغبته علشان الحياة تمشي, ومستمرة معاه علشان العيال, لولاهم كنت مشيت من زمان.. وتحول وجه هناء المنير إلي الغضب المقهور.
باكية بين شهيق وزفير تلتقط أنفاسها بصعوبة أكملت حديثها قائلة: أنا باكره أبويا, لأنه أجبرني علي الجواز منه, رغم أني كنت مخطوبة لواحد تاني قبله, لكن قبل ميعاد الإكليل, الكنيسة طلبت منا نعمل الفحوص اللازمة لاتمام الإكليل, وعملناها, ويوم ظهور النتايج كان يوم أسود في حياتي, للأسف خطيبي الأول طلع مش بيخلف, أبويا رفض يتمم الزيجة, وقال لا يمكن تتجوزي واحد مش بيخلف, حصل لي انهيار نفسي, صراخ وبكاء لكن ماحدش سمع لي, أمي متوفاة, وإخواتي ساعدوه في قراره, ماحدش منهم حس أن ده زلزال شديد هز كياني كله, لقيت نفسي بطولي, وحيدة, مستقبلي كله مهدد, هاتحرم من حبيبي, فهربت من البيت, ورحت له لكن هو ووالدته رفضوا أننا نتجوز بالطريقة دي, وبدون موافقة أهلي, رجعت لبيت أبويا, ولما رجعت, بدل ما يطبطب علي قلبي المكسور, ضربني ضرب موت, وسلمني لبيت من بيوت رعاية البنات, إللي عندها مشاكل من النوع ده, وعشت في البيت ده سنة, شفت فيها العجب, شفت كل النوعيات إللي كان مصيرها معايا في نفس الدار, كلهم ضحايا القسوة والحرمان, كلهم كانوا بيدوروا عن الحنان والتقدير, عشت قصتي وقصص كل البنات, كبرت مية سنة علي عمري, لغاية لما خرجوني منه علي الجواز علي طول, ولما خرجت كنت لسة مش قادرة أنسي خطيبي, وحاولت أتواصل معاه لكن هو رفض, وأتجوزت صابر, وعشنا وخلفنا ولادنا.
من مدة حوالي سنتين وبالصدفة قابلت نفس الشخص إللي كنت مخطوبة له, وكأن الزمن ماعداش, كل حاجة في حياتي اتبدلت, وللأسف أني حكيت لصابر لأنه أصلا عارف كل الموضوع, كنت شايفة إني باحمي روحي من تهور لما أحكي له وكانت غلطة عمري, هو تفهم إللي حصل لي ورغم كده قبل يكمل معايا, لكن الشك دخل قلبه, ومرر عيشتي, الشك خلاني أراجع نفسي ألف مرة, لأني من الأساس مش قادرة أعيش مع حد شايفة أنه ظلمني بالاتفاق مع أهلي, وهو عارف كده, الشك حول حياتي لجحيم, صعب ومستحيل أني أفضل عايشة مع شخص لمجرد إنه متمسك بيا وهو عارف إني باتعذب, صعب أكون متجوزة واحد وأنا حاسة أنه حرمني من الحياة مع واحد تاني, أنا باتحرق, عايزة أموت, لا قادرة أكون خاينة ولو حتي بأفكاري, ولا قادرة أكمل ولا قادرة أتحمل سنين الظلم, والعمر بيجري, وولادي قصاد عيني حزام عفة, لكن نار الظلم بتحرقني كل يوم, طيب أديني أتجوزت وخلفت, عملت إيه؟ عيالي وبيشوفوني باتضرب, ابني وبيراقبني وهو لسة حتي ماحصلش 11 سنة, وينقل الأخبار لأبوه كلمت مين وقابلت مين, الحياة كلها إحباط وذل, وعيشة بالغصب, أبويا قضي علي مستقبلي وكسر قلبي, أنا وخطيبي وقتها, وجوزي كمل علي بالقسوة والشك
أحمر الوجه المنير وأغرقته الدموع, بركان غلي في صدر هناء, وكأنها خبأته سنوات لتفجره اليوم, غارقة في الآهات المعجونة بدموع القهر والندم معا قالت :أنا باكرههم هم الاتنين أبويا وجوزي…هنا قاطعتها وقلت لها حتي الكراهية التي لم نتمكن من مداوتها يمكننا علي الأقل تجنبها في الوقت الحالي, فالعالم أرحب بكثير من عيون الكارهين, من أحزانك من وجه الضيقة من محيط الظالمين, فقط دعينا نرمم الشروخ واحد تلو الآخر ولن يحدث ذلك بين عشية وضحاها, لكنه يحتاج لوقت وجهد, ما زلتي صغيرة و الحياة تستقبل أيامك التي تصنعي لوحة ألوانها بإرادتك وليس بإرادة الآخرين.
وأكملت كلامي لهناء:أخبريني هل كانت أبوابك مواربة؟ هل كنت تنتظرين عودته, هل مالت النفس نحو الخطية؟.. يبدو أن السؤال شق الجرح المغلق علي صديده, فبلغ انهيار هناء ذروته, وكان لابد من إيقاف انفعالها, فأجابت بنعم, ثم أخرطت في موجة من البكاء العنيف.
إلي هناء وكل من يمر بتحربة مشابهة, علينا اليقين بأن مواربة الأبواب قد تسمح للراحلين بالعودة, لكن لا أحد يعود مثلما كان أبدا, ومثلما تفتح المواربة الأبواب للعودة فأنها أيضا تمكن الأسري من الفرار, لذلك أنا علي يقين أن هناء يمكنها الفرار من أسر العلاقة الأولي التي ذبحها سكين الحرمان وقسوة الموقف, فالتهمت قلبها ومشاعرها البكر ولم تبق شيئا للزوج.
لم تنته قصة هناء عند هذه النقطة, لكن انتهت المساحة المخصصة للبوح هذا الأسبوع, ونستكمل قصة هناء في عدد الأسبوع القادم من باب افتح قلبك.