لماذا ننجب أطفالاً؟ لماذا نحيا تعساء، ونجلب لهذا العالم ضحايا جدداً للتعاسة؟ لماذا نكره غيابهم، وإن حضروا بغير ترتيب نود التخلص منهم.. ومازالو أجنة لا حيلة لهم على عتبات هذه الحياة؟ أسئلة تطرحها أمهات، أو مشاريع أمهات، عشن في البؤس والحرمان، منهن من تخلصت من جنينها مبكرًا، ومنهن من تخلصت من أطفالها صغارًا ثم تخلصت من حياتها بدافع الفرار من التعاسة المزمنة والحرمان الطاعن في تفاصيل أيامها.. لكن بطلة قصة اليوم مختلفة، تتساءل وتبحث عن حلول، تكره ضعفها، وتفتش عن بقعة نور بين الظلام المترامي في كل ركن حولها.. إنها ”نوال” .. تلك التي لم تجف دموعها منذ أن رأيتها في المرة الأولى قبل خمس سنوات.
نعم خمس سنوات مضت على معرفتي بهذه العائلة التي حولتها الأقدار إلى صفحة من دفتر الآلام، حينما زارني رجل في الخامسة والستين من عمره يبكي على ولده، الذي أصيب بفشل كلوي، ذلك الرجل القوي الذي يساعد ولده على نفقات المعيشة من معاشه الخاص، ولم يكن لديه ملاذ إلا أن يبحث عن مساعدة لولده، “عبدالله” الشاب المتزوج، ابن الأربعين من عمره الذي يعول ابنين كان عمرهما آنذاك 7سنوات و11سنة، وبدأ في دوامة الغسيل الكلوي ثلاث مرات أسبوعياً،على نفقته الخاصة أو - على وجه الدقة - على نفقة والده، حينها كان ”عبدالله” سائقاً في وزارة الصحة!!براتب 250جنيهاً شهرياً بعقد مؤقت.
لم يكن الحل المتاح سهلاً، وهو البحث عن متبرع وزراعة كلية جديدة قد يرفضها جسد ”عبدالله”، لكن الرجل العجوز لم يترك ولده للصدفة، اجتهد وبحث ولجأ إلى الكنيسة التي منحته خطاباً موجهاً إلى جريدة وطني وبالتعاون مع مركز الرجاء وتم توفير تكلفة الجراحة، ووجدنا المتبرع وأجرى “عبدالله ” زراعة الكلية بعد مشوار طويل دام سنوات لم يتبق خلالها وريد لم تنفذ إليه أدوات الجراحة لإجراء تنقية الدم اللازمة خلال السنوات الماضية حتى أنه أجرى جراحة باليد اليسري ليتمكن من إتمام عملية الغسيل.
وتمت زراعة الكلية منذ عامين ويجري حالياً فحوصاً دورية لمتابعة الكلية الجديدة، فحوص تستمر سنوات وسنوات، يتحمل باب “افتح قلبك” تكلفتها مع بعض تكاليف المعيشة التي تأتي زوجته ”نوال” في بعض الأحيان لتتسلمها، خاصة وأن إبنهما الأكبر في المرحلة الثانوية الأن و”نوال” تضع كل آمالها على تفوقه، ربما يعوضها الله فيه خيرًا، لكن الأحمال لاتخف مع مرور الزمن، وإنما تخور القوى أسفلها، فمنذ أيام جاءت ”نوال” كالمعتاد، تطلب المساهمة في تكلفة تحاليل زوجها ”عبدالله”.. جلست أمامي منكسة الرأس، ثم قالت بصوت خفيض: عايزة أقول حاجة ومكسوفة منك، وخايفة كمان!! شجعتها على البوح، انهارت باكية، دموع تتلاحق فوق وجنتيها اللتين أذابتهما الليالي البائسة، ثم قالت:أنا حامل.
وعكس كل تصوراتها وجدتني ابتسم، إنها نعمة الله المطلقة، في غير أوانها بالنسبة لنا، وفي موسم العطاء الإلهي بالنسبة له، نعمة تبحث عنها أخريات وتفر منهن، نعمة شاقة في عرف المتكلين على ذراع البشر، لكنها عطية السماء إذا ما استراحت رؤوسنا في حضنه الوسيع، ودفننا أحمالنا في صدره الفسيح.. نزلت كلماتي كالثلج على صدرها المحترق فبدأت ”نوال” تتحدث بأريحية قائلة:
من سنتين وأنا عندي أنيميا، من سوء التغذية والتعب في خدمة جوزي وولادي والجري علشان أدبر أمور البيت، وأستلف مرة وأشحت مرة، ولا حتى اقدر اشتغل لأني باخدم الكل - حمايا وحماتي وجوزي والعيال – وما بين مصاريف العيال، وأدوية جوزي، إزاي هاجيب طفل في السن دي، عندي 41سنة، وصحتي على ادي وده احنا بندبر أكلنا بالعافية، هانصرف على العيل اللي جاي منين، ربنا مايرضاش يجيب نفس للدنيا وتتعذب. أنا حاولت اجهض نفسي أكثر من مرة، لكن الحمل ثابت، دي مصيبة وحلت على رأسي. يوم ما قلقت رحت مكتب الصحة، كنت فاكرة أني كبرت وده ميعاد انقطاع الدورة الشهرية، فوجئت بيهم بيقولوا لازم نعمل تحليل حمل والتحليل طلع إيجابي أول ما عرفت وعملوا لي أشعة، ضربت صدري بإيدي الاتنين، وطلبت منهم يسقطوني، الدكتورة افتكرت أني مش متجوزة، فخرجت ندهت جوزي وشافت بطاقته ولما عرفت ظروفنا قالت لي أني حامل في التالت وأي تصرف مني خطر على حياتي.
روحت البيت وفضلت اضرب بطني واتنطط وابكي زي المجانين، بس ما حصلش حاجة، وجوزي قاعد قدامي ساكت خالص، وابني بيقول لي الفرق بيني وبين اللي جاي 16 سنة، حرام عليكي.. أنا تحت ضغط رهيب حاسة أني مش قادرة اصمد لسه هابدأ من جديد معقول ليه ربنا سمح بكده ليه؟.
إلى نوال وكل من في نفس ظروفها.. المصائب في أعين البعض ماهي إلا منح مستترة لم يكشف الله الحجاب عن الكنز المصون فيها بعد، فما تراه مصيبة تتمناه نساء كثيرات ولا تجدنه لكنها هبة الله لمن يريد أن يمنحه إياها، لا يمكننا التدخل في إرادته بفرض إرادتنا نحن. إن الاجهاض ينطوي على فعل القتل الذي انهت عنه كل الشرائع السماوية وانهت عنه الوصايا العشر بنص صريح، فلماذا تختارون دروب العصيان؟ أو تقتلون روحاً صورها القدير على مثاله؟ وتكتمون أنفاساً انبثقت من نفحته؟ تلك الأجنة التي لم تكتمل في نظر البعض اليائس، أرواح تتمتع بكامل حقوق الحياة، حتى أن المنظومة الطبية العالمية تجرم صناعة الأدوية المجهضة وتنزل عقوبة على صناعها وعلى الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض بغير مبررات صحية.
لم تخطئ ”نوال” بل استخدمت وسيلة منع الحمل الأكثر قسوة، وكانت تتعاطي جرعة الحقن الدورة كل ثلاثة أشهر، وبانتظام لكن إرادة الله أقوى فلا هي أخطأت ولا عليها دفع الثمن، بارتكاب جريمة قتل نفس أرادها الله للحياة، ولا هي أخطأت حينما وجدت نفسها طرفاً في معادلة الظروف القاسية.. لذلك فإن مساندتها واجبة ، سواء في فترة الحمل أو في معيشتها أو في تحمل مسئولية طفل المستقبل الذي مازال جنيناً.. وفي مساندتها تحقيق لمقاصد الله التي لا نعلم أسبابها الأن لكن ربما يكشفها لنا لاحقاً.