أنطون سيدهم والقضايا الاقتصادية
نشر في 1976/12/5
**مشكلة خطيرة تبرز في حياتنا أحدثت مضاعفات ذات تأثير بالغ في قدرتنا الإنتاجية ومعدلات التنمية التي هي سبيلنا إلي إيجاد واقع اقتصادي أفضل.
هذه المشكلة هي النزيف المستمر في ثروتنا البشرية التي تمثلها العناصر المؤهلة أو ذات الكفاءة العالية…لقد تسربت هذه الثروة في السنين الأخيرة بمعدلات كبري إلي خارج مصر وتركت فراغا وأحدثت عجزا في التنمية والنمو الإنتاجي.
وكان أمرا عجيبا أن تفرط دولة في أدوات إنتاجها,ومصدر من مصادر ثروتها..والأعجب أن يحدث هذا في مصر في الوقت الذي تتردد فيه كلمة التخطيط…وزارة وأجهزة ومعاهد!!…وفي الوقت الذي نشكو فيه بطء النمو الاقتصادي ونعمل علي مضاعفة الدخل والخروج من أزماتنا المزمنة.
*ونظرة سريعة إلي واقع ما يواجهنا من مشاكل,نجد أن من أسباب أزمة المساكن وارتفاع أسعار الوحدات السكنية,هو الارتفاع الخرافي في أجور عمال البناء والنجارة والبلاط والبياض والكهرباء…إلخ,وكان ارتفاع الأجور نتيجة للسماح للآلاف من عمالنا في قطاع التشييد بالعمل في غير مصر….وعلت الشكوي,ومازالت الأمور تجري…والنزيف مستمر…ولا يؤرق ضمير المسئولين عن التنمية والتخطيط والإنتاج صراخ الملايين بحثا عن مأوي.
* وتطالعنا الصحف في بداية كل عام بانتداب عشرات الألوف من خيرة الكفاءات التعليمية…هذا فضلا عن السماح لأساتذة الجامعات والمعاهد بالعمل في الخارج…ثم نشكو ونلطم الخدود بعد ذلك من العجز في عدد المدرسين في مختلف مراحل التعليم…وسرعان ماتجيء الحلول السريعة السحرية في صورة تكليف المحالين علي المعاش,أو الاعتماد علي حديثي التخرج ليعوضوا العجز في هيئات التدريس…ويكلف خريج الحقوق بتدريس اللغة الإنجليزية وخريج اللغات الشرقية بتدريس المواد الاجتماعية…!.
*وقد أدي هذا إلي تكدس الفصول بالتلاميذ,وإلي خلل في العملية التعليمية,تجلت آثاره في الهبوط الملحوظ في مستوي التحصيل, وأيضا إلي انخفاض مستوي خريجي الجامعات من حيث الإعداد,ذلك الانخفاض الذي تحدثت عنه الدوائر العلمية في إنجلترا بالنسبة لخريجي كلية الطب.
وقد يقول قائل: إن مصر تقوم دائما بهذا الواجب نحو الأشقاء, وإنها مصدر الإشعاع الثقافي والتعليمي…هذا جميل…ولن تتواني مصر أبدا في تقديم خبرتها…وحتي غالي دمها…ولكن أن تخلو جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا من خيرة العاملين فيها,فهذا أمر لايقبله منطق أو ضمير.
*ومثال آخر ليس هو آخر الأمثلة…في قطاع الطباعة…لقد كانت مصر دائما رائدة في هذا المجال,وعرفت الطباعة الراقية منذ منتصف القرن التاسع عشر,وأصبحت مطابع الصحف مدرسة تضم عناصر ممتازة في الجمع والتوضيب وشتي فنون الطباعة…واليوم تشكو مطابع الصحف وغيرها من قلة العناصر الممتازة,وضغط العمل علي القلة الباقية فيها…وتعاني الدور الصحفية لكي تحافظ علي العاملين الأكفاء فيها وحمايتهم من التسرب إلي حيث الأجور التي تدور معها الرؤوس.
وليس من شك في أنه من السفه أن تبني مصر حياة الآخرين ويكون هذا علي حساب كيان مصر…اقتصادها…وتعليمها…ونساعدهم نعم…ولكن بالقدر الذي لا يلحق بنا أفدح الأضرار,إننا ندفع مئات الملايين نقتطعها من اقتصادنا المحدود لنعد أبناءنا كأدوات إنتاج يدفعون عجلة التطور…ثم هكذا,بسفه, نصدرهم خارج الحدود يبنون ويعمرون الدول والأفراد,بينما نترك بلادنا تنهار إزاء هذا العجز الخطير في هذه العناصر الهامة والبناءة.
* إنه من تكرار القول أن نلقي بصيحات التحذير,وإلي خطورة التفريط في ثروتنا البشرية,دون ما ضوابط أو تخطيط.
إننا لا نستعدي الدولة علي حريات المواطنين ومنعهم من العمل خارج مصر…ولكن الذي نريد أن نؤكد عليه هو أن الدولة إذا تركت الأمور تسير هكذا بعشوائية,وتركت لكل من يخايله بريق الثراء السريع,فإنها تتخلي عن واجبها في الحفاظ علي كل مصادر ثروتها بشرية كانت أو مادية,وأنها لايمكن أن تسمح بتحقيق تطلعات بعض أبنائها علي حساب مستقبل مصر كلها.
*إن التخطيط القومي الشامل مطالب بتعبئة كل الموارد المادية والبشرية بهدف زيادة معدل الإنتاج…وتحقيق الرخاء للمجتمع ككل.
وأعتقد أن الحكومة وهي تواجه كل المشاكل,دراسة وتحليلا وبحثا عن الحلول لن تسمح, بحال, بالعشوائية…فإن هذا النزيف المستمر من أغلي ما تمتلكه مصر…وهو الإنسان.