أنطون سيدهم .. والقضايا الدينية
تاريخ النشر 1978/5/7
من فجر المسيحية والكنائس تبني علي أرض هذا الوادي, بدأت بالأماكن التي حلت بها العائلة المقدسة عند قدومها إلي مصر, ثم انتشرت في ربوع الأرض كلها.
وفي الفتح العربي صدرت العهود والمواثيق بالحفاظ علي الأديرة والكنائس والبيع والحرص علي حرية أداء الشعائر الدينية, ووجد شعب مصر المسيحي في هذه العهود والمواثيق خلاصا لهم من نير تدخل أباطرة البيزنطيين في أمورهم الدينية, فرحبوا بالفتح العربي, وفتحوا له أبواب بلادهم.
ووجد المسلمون القادمون في المسيحيين المصريين أهلا وسهلا, وعاشوا معهم إخوة متحابين, وبني عمرو بن العاص مسجده علي مقربة من كنائس مصر القديمة في منطقة الفسطاط التي حل بها وحط فيها بجيوشه, وتحكي كتب التاريخ كيف كان التعاون والمحبة بين رجال الدين من هنا وهناك, وكيف كانوا يعطون بعضهم البعض القناديل ووسائل الإضاءة المختلفة في الأعياد والمواسم.
وعلي مدي الحقب المتعاقبة, والعهود المتوالية, كان المسلمون يبنون مساجدهم في الأماكن المختلفة, وكانوا يجدون من المسيحيين عونا علي بنائها, وتشهد كتب التاريخ بأن كثيرا من المهندسين الذين شيدوا هذه المساجد كانوا أقباطا, وكان الولاة والحكام يبادلونهم المشاعر فيسهمون في تشييد الكنائس ويهبون لها الأموال ويقفون عليها الأرض, وتروي الوثائق أنهم كانوا يصنعون ذلك ابتغاء رضاء العباد, وعملا بما قطع لهم من مواثيق, وما أوصوا به باعتبارهم أقرب الناس مودة إليهم, وهكذا سار الحال في معظم العهود.. عدا فترات من الردة كانت تجثم علي صدر البلاد وتخيم علي سمائها بقتامة لا تلبث أن تنقشع, ويعود إلي سكان الوادي ما طبعوا عليه من صفاء وإخاء.
* * *
وعندما كانت مصر ولاية تابعة لتركيا, وكانت الأوامر تصدر من هناك باسم الباب العالي إلي الوالي المبعوث لحكم مصر, وعرفت هذه الأوامر باسم (الخط الهمايوني) أو الفرمانات, وكانت بمثابة قوانين يطبقها الوالي علي شعب مصر.
وصدور الخط الهمايوني يشترط الحصول علي موافقة (الدولة السنية) لبناء الكنائس.. واتخذ هذا الخط الهمايوني, كما اتخذت معظم الخطوط المماثلة في ذلك الحين, سلاحا في يد الوالي, يطبقه متي شاء, أو متي شاءت له رغبته أو مصلحة (الدولة السنية).
وكان طبيعيا أن يلجأ الراغبون في بناء الكنائس إلي وسائل أخري للحصول علي فرمان ببناء الكنيسة التي يرغبون في تشييدها طبقا لذلك الخط الهمايوني.
* * *
وانتهت تبعية مصر لتركيا, وألغيت الخطوط الهمايونية والفرمانات السلطانية, وحلت محلها قوانين الدولة… ألغيت كلها فيما عدا خطا همايونيا واحدا, هو الخاص ببناء الكنائس.. من يصدق أن مصر التي استقلت عن تركيا منذ قرن تقريبا مازالت تنفذ أوامر بغيضة مقيتة.. مثل هذا الخط الهمايوني.
بقي هذا الخط الهمايوني وحده, دون سائر الخطوط, مسلطا علي رقاب الراغبين في بناء الكنائس, جاثما علي الصدور كالكابوس.. كأنه خط مقدس لا يجوز أن يمس.
والأعجب أن يصدر وكيل وزارة الداخلية, في عهد بائد, منذ نيف وأربعين عاما, قرارا بشروط عشرة لمزيد من القيود.
أليس عجيبا أن يبقي (خط همايوني) واحد بعد أن انقضي عهده وزالت دولته.. يبقي دون سائر الخطوط التي عفا عليها الزمن منذ مائة عام..؟
وأليس من العجب العجاب أن يصدر مجرد قرار من وكيل وزارة من نحو أربعين عاما, ويرقي إلي مصاف القانون, بل يكاد أن يجب سائر القوانين والنصوص التي تحمي حرية العبادة وأداء شعائر الدين.
والغريب أنه صدرت في مصر الدساتير المتتالية وكلها تنص علي حرية العبادة… ومع ذلك بقي هذا الخط الهمايوني البغيض ساريا منفذا؟!
ثم صدرت عن الأمم المتحدة وثيقة حقوق الإنسان بما تحويه من أعظم المبادئ البشرية في الحرية الشخصية والمساواة وحرية العقيدة.. ووقعت مصر علي هذه الوثيقة.. ومع ذلك بقي هذا الخط الهمايوني مخالفا لكل مبدأ سليم ومعترف به.
وقد يقفز سؤال: هل من نظام لبناء الكنائس بعد إلغاء الخط الهمايوني والشروط العشرة..؟
والجواب علي ذلك بسيط, لا يحتاج إلي إجهاد في التفكير, إذ أن الجهة الدينية هي التي تعتمد البناء لأنها المسئولة عن مده بالذين يؤدون فيه شعائر الدين, فيكون بناء الكنائس بتصريح من الجهة الدينية التي تتبعها.