الحق يحررنا، الاعتراف اخطأ الإرادة فينا يحررنا، الاعتراف بالسهو واللهو والخطية، والغاية مهما كانت مسيئة، يحررنا.. لن نتحرر إن لم نعترف أمام ذواتنا أولا، بذنبنا كنا في دروب الشر سائرين.. وحينما أنارت النعمة عيوننا، سرنا خلف النور، ولم نطفئه.. كم مرة لفظنا التوبة، وندمنا على فرص ضاع فيها الحق تحت أقدام الخطية؟! كم مرة خشينا الدفاع عن المظلومين، ونسينا الذي أوصانا أن نتمنطق بالحق طالما حيينا، مستندين إلى صخرة العدل ويقينه؟! كم مرة هربنا من الاعتراف بماضينا، أخفينا هوية ذوينا، ربكنا سلاسل من الكذب للفرار من المسئولية؟! كم مرة حفرنا آبار الملح في وادينا، ورأينا نور النعمة فحولنا الوجه عنه ولم يؤثر فينا، كم مرة تخلينا وأخلينا القلب للعناد، وجاهرنا بأن القلب بار، فيما تتمرغ خلاياه في الكبر والذاتية، وإنكار الضعف فينا؟! مرات ومرات كلنا سقطنا هنا في فخاخ الإنكار بعيدا عن نعمة الاعتراف..
واليوم اجزم انني تعلمت من “فريج” ما لم اتعلمه من حكايات طويلة قصوها علي في طفولتي البعيدة، إنها اعترافات “فريج” الذي جاء يصطحبه خادم من إحدى كنائس الخصوص، اترككم معها:
يقول فريج ( 30 سنة): ”أنا من ابنوب الحمام في أسيوط، أبويا اتوفى كان عندي 11 سنة، جاله ربو في الرئتين من غربلة الغلة، فكانت شغلته الغربلة، بعد ما مات بشوية سبنا البلد وقتها كان عمري 13 سنة، وانتقلنا إلى عزبة النخل أنا وأخواتي وأمي، والكنيسة كانت بتساعدنا – كنا تبع الزرايب.. ولما سكننا في القاهرة، أنبوبة الغاز انفجرت في الشقة، أكلت ضهري ودراعي ورجلي الاتنين، في الوقت ده كان عمي بيساعدنا ويعالجني من آثار الحروق اللي عجزتني، وخلتني مش عارف اقف فترات طويلة زي أي شاب، قعدت عشر سنين اتعالج, لغاية ما وصلت 23 سنة، في الوقت ده أمي جالها المرض الوحش في صدرها، سبع سنين لا عارفين نعالج، ولا نشيل، ولا نخفف عنها الألم.. والكنيسة بتساعد بردو لكن الحمل تقيل، وماتت بعد سبع سنين ألم وعذاب، ولما ماتت اخواتي قرروا يرجعا الشقة لأصحاب البيت علشان ياخدوا فلوسها إيجار قديم.”
ويسترسل فريج قائلاً: “عندي أخين أكبر مني، واحد بيشتغل في مطبعة، والتاني على توك توك، متجوزين وعندهم أولاد، حملهم تقيل، لكن هم قرروا بيخفوا الحمل عني أنا بس، باعوا الشقة بعد موت أمي واخدوا الفلوس، قسموها على بعض ورموا لي هدومي من البلكونة، نمت في الشوارع، ما كنتش فاهم ليه بيعملوا كده، كل ده علشان الفلوس! كام ألف يعني يبيعوا لحمهم بيها؟ كام ألف يعني تسوي نومة الأرصفة في الطل، المطر في الشتا والشمس في الصيف؟ كام ألف باعوا بيها الأخوة؟ وفين راحت النخوة، كنت صغير مسألتش، هو كان مر علي يوم حلو يعني؟! أنا ماعشتش يوم حلو في حياتي. وبقيت من شارع لخرابة لمخزن، واللي ينام في الشارع، الشارع ينام جواه، يتعلم منه ويعلم فيه، ويعلم عليه، علمتني نومة الشوارع البلطجة، ادافع عن واحد وسط ناس، اضرب حد لحساب حد، أغز حد، واحد يزقني على حد، كانوا معلمين المنطقة بيستغلوني، في خناقتهم مع بعض، اثبت حد واخد اللي في جيبه لحساب حد تاني، كنت وحش أوي، ماكنتش أعرف ربنا، واللي يقول لي روح الكنيسة، أقول له يعم سيبك، كنيسة أيه يا أبا، النور والبلطجي في توك توك.
عشت أيام طويلة في مخزن خرد، وعملت نصبة شاي، اتداري فيها، وبالليل أطلع اشتغل بلطجي علشان جسمي ضخم، لغاية ما في يوم حصلت لي حاجة غريبة جدا.. خلتني اتغير من الشمال لليمين، لو حد كان يقول لي اني هاتحول كده لا يمكن كنت أصدقه، الحاجة دي هي ان واحد زقني علي راجل بيسوق توك توك، علشان اضربه واثبته واخد اللي في جيبه، وفعلا وقفت التوك توك، وركبت مع الراجل، كان معلق صورة الست العدرا.. وطلبت منه أروح مكان أنا عارف أنه ضلمه علشان أعرف اثبته فيه، وأول ما وصلنا هناك، لقيت قبل ما انزل لقيت صورة العدرا بتنور، وكأنها بتبص لي، لقيتني اتسمرت مكاني، شفت النور طالع من عيني، من قلبي، من كل حتة في جسمي، والدم هاينط من دماغي، العدرا تنور لي أنا عيوني, ليه؟ ده خاطي وبلطجي وحلنجي، وباسرق الناس، ده أنا جاي أسرق الراجل ده، الدنيا كلها لفت في راسي في اللحظة دي، شفت اللي عملته واللي ممكن اعمله لو استمريت كده، شفت الغلابة اللي باثبتهم، واللي بلطجت عليهم.. شفت نور الله بيحلق علي ويردني إليه.. وبدل ما أسرق الراجل، نزلت واديته كل اللي في جيبي كان جنيه ونص.
الخادم الأمين
ويكمل “فريج”: ربنا نور لي طريقي وبدل ما كنت بابلطج، بعت لي ناس يتحملوا همي ويساعدوني أكمل مشواري وطريقي، ولهم ست كبيرة، ظهرت في حياتي بعد الموقف ده، اسمها ماما إنصاف، كنت باسمع عنها من قبل كده، رحت لها علشان تساعدني اني استمر في طريق ربنا، لكن ماتت بعد فترة صغيرة، وبعدها اتعرفت براهب في أحد الأديرة، وبقيت اتناول وأروح أصلي بانتظام، بس ماعرفش اقرا واكتب، انا بارفع ايدي واحكي معاه، هو عارف لغوتي، وقلبي، علشان كده ماسابنيش، بعتت لي خادم من الكنيسة اتوسط لي عند بتوع الزرايب، واشتغلت في لم البلاستيك، تلات أيام في الأسبوع، باخد 40 جنيه في اليوم, وبأنام في البدروم بتاع الخادم ده، ماعنديش مكان أنام فيه.
“ناصر” هو الخادم الأمين لفريج، وهو اصطحبه إلي باب افتح قلبك حتى يساعده، يقول ناصر: فريج دايما يقول أنه متشال على ايدين ربنا وواثق أن ربنا مش هايسيبه، ومش بيقبل الظلم، وده مخليه مش عارف يثبت في شغلانه، دايما يهلل لو شاف حد مظلوم، في مرة كان بيشتغل عند واحد في محل، والراجل بله كان عنده السكر، وبيحب خدمة اخوة الرب، وطبعا نظرا لظروف فريج فهو علي صلة بناس كتير منهم، فكان بيدل الراجل عليهم، ويشجعه علي مساعدتهم، مرة صاحبة المحل عرفت وحاولت تمشيه لكن صاحب المحل رفض.
أقوي من الظلم
ويكمل ناصر: بقية القصة أغرب من الخيال، وفي مرج صاحب المحل مرض جدا، وكانت عنده ممرضة في البيت، نادى “فريج” وطلب منه يمشيه من البيت بعيد عن مراته، لأنه اكتشف انها بتحط له جرعات علاج سامة في الجلوكوز.. ”فريج” اتجنن وقرر يرجع لعهد البلطجة لكن للخير، راح اجر اتنين من البلطجية بسلاحهم، وجابهم البيت عند صاحب المحل، أول ما دخلوا بالسلاح على الممرضة اعترفت بكل حاجة، وقالت ان إمرأة صاحب المحل أجرتها علشان تحط جرعات سامة في الجلوكوز وتموت جوزها، وطلعت الممرضة كمان مش ممرضة، ومراته اللي هي شريكة حياته عايزة تموته علشان على علاقة باخوه، وبلغنا الشرطة، وقبضوا عليها وعلى أخوه!! واتحبسوا، لكن صاحب المحل ما بعد ما نقله “فريج” للمستشفي, النيابة قررت تستخرج الجثة وتشرحها، ووقف “فريج” في وش الظلم، لأن نور ربنا ظهر جواه، لأن هو ماطفاش النور لما ظهر له، لأنه استجاب لزيارة النعمة اللي نورت له صورة العدرا، وفوقته، برغم بساطة تعليمه ونشأته.
كل هذا السرد الذي سرده ناصر, وملامح ”فريج” تعلوها علامات الفخر والانتصار عل اغواء ابليس، كنت فخورة بفخره بإرادته، وعزة نفسه رغم تجرده من كل شيء حتى المأوي.. فريج يعمل في جمع البلاستيك وفصله عن القمامة، لصالح التجار الكبار، لكنه يعمل 3 أيام فقط، حينما يطلبونه, أجره اليوم 40 جنيه أي 40 في 12 يوم = 480 جينها شهريا, ولا مأوي له ولا ملابس، قادم إلينا بجلباب شبه ممزق، لكن العزة تسد ثغراته، حقا لا استطيع وصف علامات العزة والاعتزاز، والتسليم بآلام التجربة مهما كانت قاسية.. موت الأحباء.. طرد وتخلي الأخوة.. دروب الشر.. عودة النور إلى قلبه.. إنها اعترافات فريج التي خرجت من القلب لتنفذ إلى الوجدان.
“فريج” شاب بسيط يريد مأوي مقدمته خمسة آلاف جنيه، وايجاره خمسمائة جنيه، يريد محل بجوار المأوى مقدمه ألفين جنيه، وايجاره 350 جنيه، يريد أن يبدأ بين أربعة جدران، حتي يتزوج, نعم فقد جاء إلينا منذ شهور لكن تأخير النشر هو سبب تأخر قصته عن عيونكم العطوفة.. واذا به يأتي مرة أخري بعد المرة الأولى التي روى فيها حكايته، ليبلغنا أنه ارتبط بفتاة طيبة ويريد أن يحيا حياة طبيعية..
ينبغي مساعدته, في مطلع حياته تهون عليه الطريق الطويل، خاصة بعد أن إصابته بمرض السكر، واكتشف أنه ورث الربو عن والده، فضلا عن اكتشافه الإصابة بفيروس سي، وتم علاجه على نفقة الدولة.
“فريج” نموذج لجيل كامل، من المتعلمين أو غير المتعلمين، نموذج للمظلومين في أركان الأرض الأربع، نموذج للتائبين والمعترفين، نموذج لا يأبهون بمن يقول ماذا, وانما ينظرون إلى داخلهم فقط، وكيف يسيرون دون النظر إلى الوراء، حتى لا يتجدد السقوط.