“إيريني” المرأة الحديدية التي تغلبت على صاعقة المخدرات من أجل أسرتها الصغيرة، واختبرت فشل الحياة الزوجية حينما جاءتني منذ خمس سنوات كانت في حالة يرثى لها - ترتدي ملابس تستر جسدها ولا تقيها برد الأيام وبالكاد تستطيع القراءة والكتابة- انجبت ثلاث بنات كبرن في حضنها بعيدا عن أب مدمن، متحرش بأصغرهن، مجنون – إن صح التعبير.
تجرعت ”إيريني” الذل والضرب، إلى أن لجأت لباب افتح قلبك، لم تكن الحياة وردية حينما ساعدناها على تربية ثلاث فتيات صغيرات مضطربات بسبب ما ممرن به.. لم تكن الأمور سهلة، لكن يد الله العاملة تدخلت، وتمكنت ”إيريني” بعزيمتها وبمساعدة الكنيسة وباب افتح قلبك، من عبور نفق الآلام الذي كاد أن يخنق أحلام ثلاث ورود يافعات في هذه الحياة.. لكن للأسف عبرن جميعهن النفق ليرتطمن بحائط العوز، فإيريني الأم المنكوبة التي خرجت من أسرة فقيرة جداً كانت بالكاد تقضي أيامها بلا جوع، تشاء الأقدار لها بالمرور في ذات الظروف ونفس الحرمان بسبب زوجها المدمن إذ روت لنا قائلة: سنين طويلة بتضرب وأتهان من غير سبب، مافيش حد قدر عليه أبداً، كان شغال نجار وساب النجارة واشتغل سواق سوزوكي، كل يوم يجي من شغله ويبدأ وصلة التلكيك على أي شيء حطم نفسية البنات لكن الأسوأ على الإطلاق كانت نفسية بنتي الكبيرة.
لايمكنني أبداً نسيان ما روته “إيريني” حينها عن ابنتها الكبري التي بدأت تنزوي وتجلس بمفردها تنعزل عن الجميع، تذهب إلى مدرستها بصعوبة، ثم اكتشفت الزوجة أن زوجها مدمن. خشيت ترك المنزل وهدم الأسرة وحاولت استعادة الزوج من براثن الإدمان، لكنه لم يعد ثم بدأ التشكيك في سلوكها، والابنة الكبري ترى وتتابع وتكمل في عزلتها، إلى أن امتد التشكيك إليها، فساءت حالتها النفسية، ووصلت إلى حد الانهيار، إلى أن حلت الليلة المشئومة التي أقدمت فيها الإبنة الكبرى على فعل مجنون بعد أن أمطرها والدها بالعبارات والإهانات والألفاظ الجارحة التي حينما تخرج من لسان والد لابنته يكون لها نفاذ السكين في قلبها البريء، سيف جاز في نفسها دخلت حجرتها أغلقت بابها قررت التخلص من كل مايربطها بالحياة التي كان أبوها سبباً في وجودها بها، ابتلعت شريط برشام حساسية صدر تتعاطى منه أختها الصغري.
وراحت البكرية في غيبوبة، وقفت “إيريني” مصدومة تفقد إبنتها، تتلاشي كل المعاني أمام سقوط جفنيها ولا إفاقة، فتنهار كل مقاومة لإيريني أمام جسد إبنتها النحيل الذي يرقد في سيارة الإسعاف ويصرخ في صمت ”والدي قاتلي” - كتبنا تلك العبارات سابقاً حينما نشرنا قصة إيريني كاملة منذ سنوات – لكن يبدو أننا في حاجة لاستعادة كل كلمة من روايتها مرة أخرى بعد أن لوث ذلك الرجل كل نقاء في قلوب بناته، فبعد هذه الواقعة تركت “إيريني” منزلها، ورحلت مصطحبة بناتها بلا أي متاع وقررت ألا يعرف أي شخص مكانها وبمساعدة الكنيسة تمكنت من إيجاد سكن ملائم، وبدأت تحفر في الصخر لتستعيد بناتها الثقة في الحياة وفي الرجال وفي كل ما يتعلق بالأسرة، ولم يخل الأمر من اكتشافات جديدة ضمن نفق الآلام إذ اكتشفت ”إيريني” أن الوالد الهمام كان يتحرش بالفتاة الصغرى تحرشاً جنسياً، وما العجب في ذلك فهو تحت سطوة المخدرات التي أكلت وعيه واخضعته للهلاوس.
لم ترضخ الأم الدؤوبة، بل بحثت عن عمل ووجدته عملت لدى امرأة مسنة، كانت تتقاضى 50 جنيهاً في اليوم، مستورة ومجبورة بعيداً عن المهانة لكن الأقدار قررت أن يرحل الستر مع رحيل السيدة المسنة، ومن جديد صارت ”إيريني” مشردة مرة أخرى، لا دخل ولا عائل، وكأن الكرامة كنزاً مخبأ في الوحل عليها أن تخوض فيه لكي تمتلكه، واضطررت لمنع البنات عن الذهاب إلى المدرسة بسبب ضيق الحال، فمن أين لها بتكلفة مواصلات وساندويتشات وغيرها.. تمزقت الأم مراراً، لكن ما باليد حيلة لكن الله لاينسى أحداً.. بدأت ”إيريني” النزول للسوق والتعرف على الصناعية وكونت علاقات واسعة وعملت في خلع الأرضيات القديمة – مثلها مثل الرجال تماماً – كانت تعمل ذلك بفرح وهي تنتصر لإرادتها في الانفصال عن رجل دمر فلذات كبدها كانت تروي عن تجربتها بفخر، كيف خرجت بملابسها المنزلية منذ سنوات والآن تربي ثلاث فتيات وتعلمهن ولا تحتاج إلى أحد سوى مساعدات هامشية.
منذ عامين زرتها في المدينة التي تسكنها، إحدى المدن الساحلية الجميلة وتعرفت على الفتيات الثلاث، وشعرت بذات الفخر، ونفس الزهو، الذي تشعر به.. كيف استطاعت تلك المرأة الحديدية أن تعمل في تخليع البلاط وتنفق على بناتها حتى وصلت الكبرى – التي كادت تتخلص من حياتها قبل خمس سنوات - إلى السنة النهائية من الجامعة الآن، فضلاً عن جمالها منعدم النظير. ثلاث فتيات جميلات جمال بارع، استطاعت ”إيريني” الحفاظ عليهن وتمكنت من تربيتهن على الصدق، فالكبرى تمت خطبتها إلى شاب محترم يعمل مهندسا أطلعته على كل ظروفها ولم تخف عنه شيئا، وافق ووعدها بالوقوف إلى جوارها فالفتاة فعلا تستحق.
لكن والدها اللعين الذي أبى على نفسه أن يتركها لفرحتها ظهر فجأة بعد هذه السنين عثر على مكان سكنهم وذهب إلى هناك ليس من أجل احتضانهم أو لم الشمل وإنما ليرتكب أكبر جرم يمكن لرجل أن يرتكبه في حق ابنته، إذ اتهم زوجته ”إيريني” بأنها على علاقة آثمة بخطيب إبنتها وظل يصرخ أسفل العقار محل سكنهم وكانت فضيحة كبرى، وحاولت ”إيريني” اللجوء لوساطة الكنيسة فما كان منه إلا أن تعدى على مكتب الأب الكاهن الذي تدخل محاولا شرح الأمر له وأن الكنيسة تتابع أسرته منذ اللحظة الأولى لترك منزله، لم يرتدع الرجل لأحد، فالمخدرات أكلت عقله وبات الأمر معقدا جداً، لذلك قررت ”إيريني” عمل محضر في قسم الشرطة له ثم عادت وهي عازمة على إتمام إكليل ابنتها في منتصف الشهر القادم منعاً لأية أزمات قد تتسبب في فسخ الخطبة وكسر قلب الإبنة التي يبدو أن نصيبها من الانكسار لم ينته بعد.
“إيريني” تحتاج للمساعدة في جهاز ابنتها لم تشتر أي شيء حتى اللحظة - لا حجرة النوم ولا الأثاث ولا الملابس ولا أدوات المطبخ – ولايمكن للعريس المساعدة لأن أسرته لا تعلم التفاصيل وربما لو علمت أسرته لانفسخت الخطبة، لم يكن لدى ”إيريني” المال الذي يؤهلها لتزويج ابنتها حالياً، فلم يمر عام على خطبتها بعد.
الله قادر على أن يتمم فرحة ابنتك يا ”إيريني” لأنها احتملت كثيراً وتستحق الفرح بعد طول انكسار.