غارق في نفسه, إلي حد التيه, مغيب عمدا رغم النكبات,عاجز إلي حد اليأس,يبحث عن إسكات الألم الصارخ في برية ذاته, عبر استنزاف طاقة الحب والغفران, وطاقة الجنس في زوجته المغلوبة علي أمرها, يعلم أنه مخطئ لكنه أبدا لايعترف ولا يقر, ففي إقراره موافقة ضمنية علي إمكانية التغيير وهو ما يصعب عليه, أما هي فتعلم جيدا أنها ليست المرأة الخارقة,لكنها مجبرة علي الاحتمال والغفران القهري, من أجل حفنة أبناء, حتي لو كان المقابل, معاشرة رجل لم يكف أبدا عن إدمان الخمر,ولم يكف عن ضربها وإجبارها علي ممارسة الجنس أمام ابنائهما, تلك العلاقة المشوهة يحاول فيها طرف التسيد علي الطرف الآخر,اذلاله, قهره,ثم يرتمي في أحضانه باكيا, هاربا من ضعفه,من قوته, هاربا من نقصه, ودونيته, التي يحاول ترميمها بكسر الآخر, وتركيعه تحت أقدام الشكوك ذات التاريخ المريض,يحاول الفرار إلي رحابة الغفران,لكن لكل شيء حد حتي الغفران.
وكرهت سهام غفرانها, صار مقيتا في عينيها: غفران أجبرتها الظروف عليه, سهام جاءت منذ سنوات بصحبتها طفلان, يستند إليها رجل كفيف, وفي أحشائها جنين اختمرت فيه الحياة, قارب علي ترك مضجعه الآمن,للخروج إلي هذه الدنيا, خمسة أرواح كانت علي بعد خطوة من التشرد, بعدما عجز عائل الأسرة عن الوفاء بالإيجار الشهري, والتصدي لبطش مالك العقار الذي ألقي بأثاثهم إلي الشارع, حينها قمنا بالمساعدة في توفير مسكن آخر وتحمل نفقات الولادة,وتحمل نفقة إيجار محل لتشغيلهبقالة صغيرة حتي تتمكن الزوجة من مراعاة الزوج والأبناء دون الانشغال عنهم في عمل يعوق رعايتها لهم,لكن لم تمض الأمور كما كان مخططا لها. وبعد الولادة عادت الشدة مرة أخري لكن بتفاصيل جديدة.
عبر الهاتف جاء صوت سهام متقطعا, وكأنهم حشروا في حنجرتها صخور الأرض جميعها, حتي أنني لم أفهم منها حرفا واحدا, بعد يومين حضرت إلي مقر الجريدة, تحمل وجها باهت اللون, جسدا هزيل البنية, غطت أنحاءه زرقة الكدمات, بها ما بها, وتطلب عملا قالت في خجل:مش عارفة أقول لك إيه لكن المرة دي لازم أحكي كل حاجة لازم تعرفي أنا كنت باشتغل إيه قبل ما اتجوز, وإيه اللي وصلني للحالة دي.
في صمت تركتها تسترسل,كل خلية في جسدي تنصت مدفوعة بفضول وحشي,لم يتوقع أبدا ما روته سهام.أكملت قائلة:من سنين جيت القاهرة هربانة من أهلي,من قسوتهم, من الضرب والاهانات, من الشك في أخلاقي وأنا أغلب من الغلب نفسه, من الحبس في البيت, من تفتيش ضميري طول الوقت, واستقريت عند واحدة صديقة لي,ماكانش معايا فلوس ولا هدوم, ولا معايا شهادة, ولا صنعة, بعد شوية صاحبتي اشتغلت في بار,وأخدتني معاها, ومن البار لملهي ليلي, وبقيت الصورة إللي أهلي اتهموني بيها زمان, وهناك من الملهي اتعرفت علي راجل طيب, كان كل يوم بيسهر ويشرب, وكان كريم معايا, وبالتدريج ارتبطنا ببعض,حبيته, وآمن بأني كنت في يوم بريئة, اتجوزنا, وبعدها عمل حادثة, وفقد بصره, وخلفنا تلات عيال, لاعينيه رجعت, ولا أنا لقيت شغل ولا عارفين نعيش, واللي بيساعدونا خلاص تعبوا مننا, مافيش حد هايشيل خمسة, محتاجة حد يشغلني أنا لسه بصحتي بس شغل البيوت واقف علشان كورونا ماحدش راضي يدخلني بيته, بيقولوا هانقل لهم الفيروس وحالي وقف.
أجريت عددا من الاتصالات جاء بعضها بنتيجة وتوفر لها عمل في مكان آمن قبل أن تغادر المكان وترحل,سألتها:كيف يقبل زوجك هذا الوضع وهو الرجل الذي أحبك يوما ما حتي ارتضي بالزواج منك في ظل مجتمع متحفظ قالت:جوزي مدمن خمر,كل يوم يبعت ابننا الكبير سنه 12 سنة يشتري له إزازة الزبيب, يشرب لغاية ما يتعمي أكثر ماهو معمي, ويلوش فينا ضرب,ويجبرني علي ممارسة الجنس معاه والعيال شايفين وفاهمين كل حاجة, ولو مارضيتش انضرب لغاية ما أجيب دم من كل مكان في جسمي, حياتي كلها جحيم,لأنه كمان بيشك في,طبعا الطريقة اللي اتجوزنا بيها مخلياه لغاية دلوقت شايف أني مش ست شريفة, بس كل همي هو ولادي عايزة أربيهم وأحافظ عليهم عايزة أعيش من غير ما حد يهددني أترمي في الشارع علشان مش عارفين ندفع الإيجار عايزة أربي ولادي بينأربع حيطان كتير علينا ده؟.
لم يكن كثيرا علي الله أن يوجد لها عملا سريعا, وتجد نعمة في عيون من حولها, ومرت الشهور, واستقرت أمورها, ولم يقلع زوجها عن الخمر, واستمرت تحت عصا اضطرابه, ونوبات الغضب المدفوع بهوس الخمر, وشكوكه التي لم تفارقه بسبب الصراع بين حبه لها وبين التركيبة المعتاد للرجل الشرقي التي تتملكه حتي النخاع فيهرب للخمر, وكم تصورت المسكنية أن الشروق حل, ولاحت الشمس في سماء حياتها,تصاعدت غيمات الأذي من جديد لتحجب ميلاد النور, الذي لم يتبق منه سوي آلام المخاض, ومن مخاض إلي مخاض تعبر سهام,حتي وصلت المخاض الحالي, فاستنجدت بنا مرة أخري,حينما شعرت أن في أحشائها يسكن الطفل الرابع, وفي جلسة سرية جدا أفصحت عن نواياها قائلة:لازم أسقط, ماقدرش أجيب عيال تاني, لاصحتي ولا ظروفي تسمح, أجيب عيل تاني علشان أجوعه وأشرده, وينضم لإخواته في مأساتنا؟ ثم ظلت تبكي وتضرب بطنها بكلتا يديها,صارخة:حرام مش عايزة عيال تاني حرام, أصرف عليهم منين يا ناس,هافقد شغلي لو خلفت البيت كله هايضيغ مين هايصرف علينا.
أوقفتها عما تفعله,أمسكت بكلتا يديها, احتضنتها, لم يكن الوقت مناسبا للنصح والإرشاد بقدر ما هو مناسب لحضن الاحتواء, والمواجدة تركتها تبكي وتثور, تسب وتلعن الحياة,تلعن ضعفها وكراهيتها لما آلت إليه, احتلت مساحات البوح بما في أعماقها جلسة كانت أقرب للانتحار الإجباريكانت آنذاك حامل في شهرها الثالث,اليوم هي حاملا في شهرها الخامس,وها نحن ننشر عنها استعدادا لولادتها, وما بعد ولادتها لأنها ستتوقف عن العمل فترة قد تطول لسنة ولا أحد يعلم هل ستعود مرة أخري لعملها أم لا,لكنها ومعها أسرتها تحتاج لمن يعولهم,بما فيهم الزوج المخمور الكفيف. فالخالق الذي بأمره وضع بذرة الحياة وبأمره فقط تنتزع, والطفل الراقد في أحشاء سهام القادم بإشارة إلهية, لن يرحل بأوامر إنسانية, لأن العصافير أيضا تجد طعامها.
سهام مثلها مثل الجميع عادت لرشدها وتوازنها,لأننا مع كل باقة دموع تذرفها بساتين الألم في داخلنا تنكشف الغيمة عن أعيننا نبصر حيث لانور ونفهم حيث لا وعي…نعم إنها بساتين الألم المزروعة بخبرات تعلمنا ما حيينا أن الحياة ليست كرنفالا ورديا لكنها أيضا ليست مأتما واسعا ولا حفلا جنائزيا.