التخلي والترك, الفقد, المرض, أنه ثلاثي الوجع المر الذي كتبنا عنه الأسبوع الماضي, ذلك الترك الذي فيه حضور إرادة آخر, يري ذاته ولا يرانا,يحرمنا يجافينا داخل أنفسنا يسجننا وينفينا, والفقد الذي أينما يحل لايمكن العودة بالزمن للوراء ساعة واحدة لتعويض أي من الأشياء التي فاتت, أما المرض فهو ذلك الابتلاء الذي إزاحته ليست ملكا في أيادينا, وأموال الدنيا ليست قادرة أن تزيح مرضا أو تعيد صحة ما لم تتدخل العناية الإلهية.
تلك الثلاثية التي كتبنا عنها الأسبوع الماضي, وكانت بطلتها أميرة, الفتاة الصعيدية البسيطة التي يقع ترتيبها الخامس بين إخوتها وأخواتها السبعة, يتيمة الوالد المصابة بارتخاء في العضلات, ويبلغ عمرها 27 سنة, أميرة التي تحتاج نقل بلازما من آن لآخر, عانت من الترك مثلما عانت من المرض, فحينما أصيبت بمرضها فر خطيبها هاربا, وبالرغم من فراره إلا أنها لم تفقد الأمل, فاختبرت الترك أربع مرات جميعهم فروا حينما عايشوا نوبات إصابتها الشديدة التي كانت تدخلها في رقاد كامل يصل إلي مرحلة الحفاضات, فلا تستطيع أن تفارق فراشها.
وهكذا أيقنت أميرة أنها لن تتزوج أبدا, ولم يكن في وسعها إلا أن تصب تركيزها علي حالتها الصحية فقط, وتبحث عن طرف يتحمل نفقات علاجها حتي تظل واقفة علي ساقيها, فحسب تعبيرهامش عايزة حاجة إلا إني أروح الحمام لوحدي.
تكمن أزمة أميرة في أنها لاتمتلك المال, وحتي إذا تحصلت عليه يغتنمه أخوها لإنفاقه علي المخدرات, التي أدمنها منذ عشر سنوات تقريبا,حينما روت لي أميرة حال شقيقها, عرضت عليها مساعدته للتعافي من التعاطي والإدمان لحل مشكلته ومشكلتها, شريطة أن يكون ذلك بإرادته الحرة وبلا ضغط لأن إيداعه إحدي مصحات علاج الإدمان لن يؤتي بنتائج إلا إذا كان برغبة صادقة, فكل الأشياء قد تبدأ من الخارج إلا الإرادة تنبع من ذواتنا,لذلك فإن أسباب الإدمان أيضا تتعلق في جانب كبير منها بمسببات نفسية مثل الرغبة في مداواة الذات والطبطبة علي النفس بلذة إضافية والهروب من الواقع أو الهروب من الفشل أو الشعور بالقهر وهكذا, لذلك طلبت من أميرة مقابلة شقيقها فانوس للتأكد من رغبته في التعافي وجدية الحالة.
تواصل فانوس معي, ليعتذر عن الحضور لإصابة أميرة بنوبة جديدة من ارتخاء العضلات الذي يقعدها إذ كانت هي الطرف الذي سيصاحبه في رحلته إلي مكتبي ولن يأتي منفردا حسب ما أكدته أميرة وخلال اتصاله بي أكد أنه يحمل رغبة قوية في الشفاء لكنه عاجز عن تحقيقها ولايعرف كيف يبدأ,قال بمنتهي البساطة:
أنا فانوس أخو أميرة ومدمن وباخد شعر وبودر وحشيش, كنت باشتغل نجار لكن فلوسي كلها ضاعت علي المخدرات, وبقيت استلف ومش عارف أسدد لغاية لما بدأت مشاكل كبيرة, أصحاب الديون بيخبطوا علي باب بيتنا وعايزين يدخلوا بالعافية وإخواتي البنات وأمي اتمرمطوا معايا, حاسس بالذنب ناحيتهم لكني مربوط متكتف مش عارف أخلص صدقوني غصب عني نفسي أخف نفسي أفوق, نفسي أرجع عندي نخوة.
لم أتمكن من تمييز نبرة الصدق من عدمه فلست خبيرة بالمدمنين لكنني مؤمنة أنهم نوع خاص جدا من المرضي المنكوبين نوع يستحق الشفقة وليس العقاب, المهم إنني توقفت عند كلمةشعر كنت علي وشك سؤاله: يعني أيه شعر؟لكنني تراجعت وبعد البحث عن معني الكلمة وصلته بالمخدرات لم أتمكن من الوصول لنوع المخدر الذي يطلق عليه لفظشعر حتي أنني لم أجد لها تصنيفا بين المواد المخدرة الجديدة مثلالأستروكس والفودو والأسبايسي والفلاكا والكريستال والفيل الأزرق والقطرة التي باتت مصطلحات جديدة يتم تداولها في الشارع المصري, لكن ما يعنيني أن له رغبة حقيقية تنقصها الإرادة والمال اللازم للتعافي في مصحة متخصصة حتي يعود لحالته الطبيعية وعلي الأقل لايتسبب في إيذاء أسرته.
فإذا كانت الدولة غير قادرة علي توفير أماكن رعاية للمدمنين توفر لهم الأمان والاستشفاء فلا يجب علي المجتمع التخلي عنهم, وكل من يستطيع أن يفعل حسنا فليفعل بهؤلاء المنكوبين الذين تصوروا أنهم علي موعد مع السعادة عبر مسبب وهمي لها, يساهم في إفراز المادة المسئولة عن الشعور بالنشوة الدوبامين لدقائق ثم تذهب النشوة وتذهب الإرادة ويذهب الإنسان الداخلي ليحل مكانه كائن آخر مسلوب المشيئة.
توهموا أنهم علي موعد مع اللذة فوجدوا أنفسهم مغمورين بالوجع, إنهم ضحايا وليسوا جناة لذلك تواصلت مع الدكتور إيهاب الخراط إستشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان, ومؤسس ومدير برنامج الحرية لعلاج الإدمان والإيدز عرضت عليه حالة فانوس وأبدي ترحيبا بتحمل مؤسسة الحرية مسئولية علاجه إذا ما انطبقت عليه الشروط اللازم توافرها طبقا للائحة المؤسسة, فكل الشكر للدكتور الإنسان إيهاب الخراط.