خلف كل خبرة سوداء, واقع سقط في شبكة اليأس, وخلف كل نجاة, طوق تشبث بنا وتشبثنا به, خلف كل انحراف دافع, وخلف كل تعافي حافز, ولأن العطاء المجاني محذوف من قاموس الخبرات الحياتية, فعطش التجارب لا يرتوي إلا من براءتنا, ولا يستقيم إلا بانكساراتنا, فانحناء وسقوط, ربما تتبعهما صلابة, وصمود هذا ما شعرت به حينما جلس أمامي هاني, وهو الإبن الأصغر لرجل كافح وعاش مستورا, لم يمد يديه لسؤال الناس أبدا جاء هاني منهكا تغطي وجهه ملامح ثلجية, لم استنتج منها مشاعره كالمعتاد مع من يتردد علينا, قال في هدوء جاي من طرف فلان الفلاني, ولأنني أثق فيمن أرسله, وثقت فيه, قال ومازالت ملامحه تغطيها ثلوج الثبات والدي كان ضحية لحادث من أسبوعين, هو راجل بسيط بيشتغل فاترينست ـ تنظيم فاترينات المحال ـ صدمته عربية علي الدائري, وجسمه كله مكسر, بعد الحادثة فوجئت أن الناس صورت كل حاجة, ورقم العربية, والناس اللي وقعت من فوق الطريق الدائري ـ يحتفظ الباب بالصور ـ ولقينا سواق العربية الملاكي ساب العربية وهرب, والشرطة لما وصلت لقيت في العربية حشيش, وبطاقته ورخصته, يعني معلوم بالنسبة لهم, لكن لغاية دلوقت مافيش أخبار عن القبض عليه, وحق أبويا راح وانشغلنا في إنقاذه, كان أهم من أننا ندور علي المجرم اللي عمل عملته وهرب, وماحدش وصل له, لكن بعد مانقلت أبويا من المستشفي, مش قادر علي مصاريف العلاج, ولا علي نقله لمستشفي تانية, ولا قادر أقرر وخايف أخد قرار بنقله أو علاجه في البيت, أكون باتسبب في أذي بدون قصد.
ثم صمت هاني, وبدا مترددا في طرح شيئ ما, وبدت ملامحه الثلجية تمتلئ بالدم, فبادرت بسؤاله: ها إيه تاني, أنت عايز تقول حاجة؟ أعاد كرة الثلج إلي موضعها في مقدمة وجهه, قائلا: لا محتاج بس تساعدوني أنقله في مستشفي تانية سألته ماذا تعمل؟ فصمت, كررت سؤالي, فأجاب: كنت شغال في مؤسسة بتعالج المدمنين, لأني مدمن متعافي, لكن حاليا باشتغل سواق تاكسي, وتلاشي الجليد في وجهه, وهو يقول: أبويا صرف كل فلوسه علي علاجي, حاسس بالذنب ناحيته, فضل يشتغل ويصرف علي, وأنا مدمن, شربت كل حاجة, واتعاطيت كل حاجة من البانجو للهيروين, أدمنت وأنا عندي 16 سنة, وخفيت من تلات سنين, وحاليا عندي 35 سنة, ولما قررت أتغير, ولما قدرت أتغير, وبقيت إنسان تاني, واتجوزت وخلفت, كان هو وأمي مش معاهم أي حاجة ليهم, ولا حتي تمن أدويتهم, كان نفسي في موقف زي ده أقدر أصرف علي مرضه, أو حتي أكون سبت له فلوسه لعلاجه, لكن للأسف فقت متأخر بعد ما خلصت عليهم, وأدي النتيجة.
المدهش أننا لا نتمكن من النظر إلي اللون الأبيض إلا إذا عشنا في صفحات سوداء, فما الضرر من كون هاني, مر بخبرة مؤلمة سببها التدليل, لأنه ابن وحيد بين ثلاث بنات؟ دفع هو ووالديه ثمنها غاليا هاني الذي أدركته الإفاقة بعد فوات الأوان في نظره ربما يكون ذلك سببا في صلابته مدي الحياة.
ولكن هل ينقذ الندم عم نجيب بعدما أنفق كل ما له علي علاج ولده المدلل؟ ذلك الرجل الذي عاش مستورا وربي ابنا وثلاث بنات, تزوجوا جميعا, وظل مع زوجته المريضة يرعاها, ويعمل قدر طاقته, واستصدر معاش التضامن الاجتماعي 325 جنيها شهريا تدعمه في مواجهة أعباء الحياة, لكنه في ذلك النهار المشؤوم, وعند محطة انتظار الميكروباص, فوق الطريق الدائري فوجئ ومن معه من الوقوف, بسيارة ملاكي تحمل رقم (مصر ـ ف ص/ 4878) ـ طبقا لمحضر الشرطة المحرر في قسم بنها تحت رقم (2019/9548) ـ تأتي مسرعة في اتجاههم, لتزيحهم من فوق الرصيف فتقذف بأربعة من فوق الطريق إلي أسفل الدائري, ليلقوا مصرعهم في الحال, ويبقي عم نجيب, وآخر محطمين الجسد الذين تم نقلهم إلي مستشفي قليوب.
لم يكن المستشفي علي درجة من الإمكانيات التي تتطلبها حالة عم نجيب, نقلته أسرته إلي مستشفي آخر, وهناك أجريت له خمس جراحات, فالكسور في كل أنحاء جسده, مع ارتجاج في المخ, وتجمع دموي, وكسر في الفك السفلي, ونزيف في المعدة, تكلفت الجراحات ما يتعدي 25 ألف جنيه, ومثلها تكلفة الأطباء والتخدير, بخلاف نقل 17 كيس دم, ودخل عم نجيب في غيبوبة ودرجات مختلفة من الوعي, لم يكن بجانبه سوي ولده, فبناته كلهن في محافظات مختلفة, وزوجته المريضة التي لم تفارقه, وتراكمت فواتير المستشفي, واضطر ولده لنقله إلي المنزل, لاستكمال العلاج بتكلفة أقل, وجاء إلينا ليجد حلا ربما نستطيع المساعدة في نقله إلي مستشفي آخر عبر باب افتح قلبك.
وبعد مقابلة هاني, ذهبت لزيارة عم نجيب, وهناك وجدت رجل يختفي جسده وراء الجبائر التي كفنته, يغيب عن الوعي, ثم يعود, قال لي بصعوبة: متشكر يابنتي, تفتكري أنا هاخف؟ أجبته طبعا وخرجت من الحجرة المتواضعة التي يرقد فيها, لأتحدث مع زوجته, التي تجمع حروفها بالكاد لتنطق جملة, تعاني من الضغط والسكر, والقلب, ولا تعرف حتي مواعيد علاجها, كان هو المسؤول عن كل شيء, بكت قائلة لا أعرف ماذا أفعل, هو كان بيعمل كل حاجة, أنا مش عارفة أي حاجة, وكل اللي حيلتنا ضيعناه علي علاج هاني, وقلنا صليب واحتملناه بشكر لغاية ما ربنا شفاه ورجعه لينا, ومالناش حد غيره دلوقت, البنات مسؤولين من أزواجهم, وماحدش بيصرف علي مرض حد.
ولأن الصدق ينفذ إلي القلب, كان لابد من إيجاد حل سريع, وبعد الاتفاق مع أستاذ مخ وأعصاب لمتابعة الرجل, في اليوم التالي للزيارة, وقبل اتخاذ أي إجراء, مات عم نجيب, واتصل بي أحد أقاربه ليبلغني أن هناك أزمة في استصدار تصريح الدفن, لأن طبيبة مكتب الصحة, طالبت الأسرة بمخاطبة قسم بنها وبعد أزمات كبري, واتصالات بالصحة, وبالنائب البرلماني إيهاب الطماوي, اكتشفنا أنه لابد من مخاطبة النيابة وإثبات الوفاة في المحضر سابق الذكر, حتي تثبت الصحة من أن الوفاة تندرج تحت الجنحة السابقة أي بسبب الحادث, أم أنها وفاة طبيعية!! ولأن عقيدة البسطاء إكرام الميت دفنه, ولأنهم لا يريدون للرجل أن تفوح رائحة الموت منه, بعد أن أمضي أكثر من سبع ساعات ملقي علي سريره, مضمدا بالجبائر, لا هو في الكفن, ولاهو في المدفن, ولا هو في ثلاجة المشرحة, كادت أسرته أن تتنازل عن الجثة تحت تصرف النيابة, وانتهت قصة عم نجيب الذي ترك زوجة, لا تعرف من أين تحصل علي قوت يومها, فالابن الذي يعولها, يعول أسرته أيضا المكونة من زوجة وطفلين, ويعمل سائق تاكسي, ولم يكن معه حتي تلكفة الدفن وشراء صندوق الموتي. ولن يتمكن من الوفاء بتكلفة علاجها التي تصل إلي ما يقارب 700 جنيها شهريا, هذا بخلاف متطلبات الحياة الأساسية.
لا ألوم الأبن, ولا ألوم الأسرة التي حاولت استرداد ولدها, لكنني ألوم جمهورية الظلم التي تترك السموم تصل لكل بيت وكل شارع وكل حارة, وتصل ليد أي شخص في أي عمر, ألوم جمهورية الظلم التي تترك, المدمنين بلا تأهيل, ولا رعاية, وتترك الحمل كاملا علي الأسرة التي لا ذنب لها سوي أنها تحيا في كنف جمهورية الظلم التي تضم تجارا وحماة السموم, ألوم تلك الجمهورية التي تترك مشافينا الحكومية للإهمال, لتصبح كلفة العلاج والتعافي استنزافا لأسرة المتعاطي, الذي يعتبره القانون ضحية ما لم يمارس الإتجار, فإلي متي ياجمهورية الظلم نصرخ وتصمين الآذان؟