ما هذا الخليط المتنافر من الدعايات التي تبثها أجهزة إذاعات وبيانات لشتي الاتجاهات.. يكاد يقف المرء إزاءها مبلبل الذهن, مشتت الخاطر..
صحيح أن إفساح المجال للرأي الآخر من مظاهر التحرر.. ولكنه حينما يستغل الحرية في الدعوة إلي ردة أو رجعية, وحينما يمس أعز ما يقدسه الإنسان من عقائد أو شعائر.. يغدو سبة في حق الحرية الشخصية..
وحينما تلقي تلك الدعوة من يؤازرها ويسير في ركابها, عن خشية ورهبة, أو ابتغاء تأييد وغلبة, أو عن منفعة مادية, أو عن جهل وتعصب, يغدو أمرها جديرا بالنظر والتدبر.. قبل أن يستشري الخطر, ويستفحل الضرر.
ليس أمر مثل تلك الدعوة الرجعية جديدا علي بلد من البلاد, أو وطن من الأوطان, إنها تهب هنا وهناك من بقاع الأرض, في موجات متلاحقة بين حين وآخر.. تهب كالوباء, وأكثر ما تجد فرصتها في الأوساط الرجعية, والبيئات المختلفة, حين تمشي بالفرقة بين الصفوف, وتبث سمومها في الظلام, ومن سماتها أنها تغشي الجحور والأوكار, وتخشي الظهور في النور, وتتظاهر بالغيرة علي الدين.
* * *
لأجهزة الإعلام دور مهم في حياة الأمم..
والصحافة, والإذاعة, والتليفزيون.. كل هذه من أجهزة الإعلام.
واهتمام الشعوب والدول بالإعلام, وبتوفير أجهزته ووسائله مظهر حضاري متقدم. فحضارة كل أمة أو شعب, تقاس بمدي الاهتمام بأجهزة الإعلام, والشعب الذي يفتقر إلي أجهزة الإعلام. شعب متخلف يفتقر أبناؤه إلي الوعي بأسباب النهوض والحضارة, لأنه ليس بين مجموعاته وأفراده من يقدم علي الاضطلاع بحمل هذا العبء الثقيل.
نعم.. الإعلام عبء ورسالة, فإصدار صحيفة مثلا ليس أمرا هينا, وإنما هو عبء ثقيل, لا يدرك ما يتطلبه من جهد إلا من مارسه وعاناه..
ولكنه, إلي جوار ذلك, فهو رسالة لها قدرها وأثرها العميق في الشعب وأفراده علي مختلف درجاتهم.
* * *
وأجهزة الإعلام مسئولة مسئولية خطيرة عن كل ما تنشره أو تذيعه أو تعرضه.. لأنها تعبئ الشعب, إما إلي الطريق السليم والقيم العليا أو إلي طريق مملوءة بالأشواك والعثرات..
وحينما صدرت وطني, من نحو عشرين عاما, التزمت بهذه القدوة, وحرصت علي أن تكون مترفعة عن التعصب والرجعية, عن الابتذال وتوافه الأمور, فكان موظفوها ومحرروها -مسلمين ومسيحيين- يتعاونون ويتعاملون بروح الفريق, بل كان سكرتير تحريرها صحفيا كريما فاضلا من رجال الأزهر, هو المرحوم الدكتور أحمد عبدالمنعم البهي, وكانت صفحات الجريدة مفتوحة للجميع, تنشر لأئمة المسلمين, كما تنشر لرجال الدين المسيحي..
واستنت وطني لنفسها المثل العليا, بأن تعزف عن نشر ما يمس النفس البشرية من تفاصيل الجرائم, مع ما فيها من استهواء, وأن تمتنع عن نشر الصور والقصص الخليعة, مع ما فيها من إغراء, وألا تسود صفحاتها أية كلمة نابية.. ولقد كانت وطني تعرف من الوهلة الأولي أن الالتزام بهذه المبادئ قد يفقدها الذين تجتذبهم صور الاستهواء والإغراء أو عوامل الإثارة, التي يعتبرها الكثير من الصحف هي أساس الصحافة الحديثة.. ولكن وطني تمسكت بما استنته لنفسها من مبادئ, حفاظا علي القيم التي تدعو إليها, وكان أن أصبح قراؤها من الصفوة الخالصة المتفتحة, يحملها رب الأسرة إلي أولاده وبناته وهو مطمئن إلي أنه لن تجرح نفوسهم صورة خليعة أو كلمة نابية..
إذن مسئولية وسائل الإعلام هي مسئولية جسيمة حقا, إذ يجب أن تكون دقيقة وحريصة علي أن تقدم لأبناء هذا الشعب الحبيب كل ما هو ثمين من القيم, وما يدعم وحدة الأمة, فتبتعد عما يثير فيها عوامل الحقد من جانب, والمرارة من جانب آخر, فلا يستشعر المجتمع, أو جانب منه بما ينتقص من مكانته أو قدره, لينشأ الجميع إخوة متحابين, ومواطنين صالحين متعاطفين..
* * *
وكما نحب أن تكون صحافتنا قدوة للمواطنين في الالتزام بالقيم, والحرص علي الوحدة.. وتجنب كل ما يخدشها أو يوهن من روابطها.. كذلك نحب أن تكون إذاعتنا أيضا..