يغرد المستقبل في عيون الصبايا والشباب تغريدا أخرس بلا صوت… يطل الأمل كالحريق من نفوسهم… الحماس أكلته الاحباطات… فلا الحريق أشعله ولا الاحباط أطفأ الأمل… يطوفون الشوارع كالسائلين يبحثون عن عمل… بعد سنوات التعليم الطويلة… فلا يجدونه… يتسولون الفرصة ولا جبر خواطر السائلين… فتنتابهم الحسرة ومن بعدهم ذويهم… وتتكرر المآسي يوميا لدي مئات الأسر… فهذا شاب تخرج ولا يجد عمل… ومازال يمد يديه لأبويه ليتلقي المصروف…. وتلك الفتاة أنهت دراستها وترقد بين جدران غرفتها حزينة لا تجد عملا ولا فرصة في الزواج…
هكذا حال الشباب… هذه الصورة هي الأبسط والأخف بين المآسي المرتبطة بالبطالة واحباطاتها وحكاياتها… وفي القلب منها جاءتني سيدة في منتصف الأربعينيات من عمرها… علي وجهها علامات الذهول والصدمة… عينان زائغتان… شفتان تهمهمان بكلام غير مفهوم كلما انشغلت عنها لحظات… وبدأت تخرج ما في صدرها من بركان مصحوبا بدموع لا تنقطع حتي كادت تزرف عينيها قائلة: تزوجت منذ خمسة وعشرين عاما ولم أزل صغيرة… مررت بظروف لا تقل قسوتها عن جحيم المقهورين تحت وطأة الاحتياج والتخلي والوحدة… أنجبت ابنين في عمر الشباب الآن… الأكبر تخرج منذ عام وحصل علي بكالوريوس حاسبات ومعلومات قسم برمجة… والأصغر في السنة النهائية من دراسته الجامعية.
زوجي يعمل فرد أمن في إحدي الشركات الخاصة عشنا تجارب مريرة بعد أن فقد عمله أكثر من مرة في مجال السياحة… وتحولنا من ميسورين إلي بالكاد ميسورين… ورويدا رويدا جار علينا الزمن وفقدنا كل شئ… المال والعمل والممتلكات وتركنا مدينتنا الصغيرة لأهلها القساة الذين تخلوا عنا.
جئنا إلي القاهرة آملين في حياة جديدة… واستجاب الله لنداءاتي… وسترني وستر أسرتي واستقرت الحياة… إلي أن تخرج ولدي الأكبر وبدأ يبحث عن عمل… طرق كل الأبواب فانسدت في وجهه… حائط صد حال بينه وبين حقه المشروع في العمل…
حاولت مساعدته فطفت علي المعارف ربما يساعده أحد لكن دون جدوي… وما بين العاجز والمتعالي والمتجاهل… كان مصير محاولاتي التي باءت جميعها بالفشل… طعنت في كرامتي من أقرب الأقربين… الذين كنت اتصور أنهم أول من سيساعدني لإيجاد فرصة عمل لولدي…
وبدأ المشوار مع إعلانات الصحف… أكثر من خمس مقابلات يوميا ولم تفلح… كان يخرج من المنزل مفعما بالأمل ليعود منكس الرأس مكسور الخاطر… إذ يجد من لديه صنعة يعمل ويجد قوت يومه وهو خريج الحاسبات لا يجد حتي من يقوم بتدريبه ليحصل علي الخبرة المناسبة.
ظل الحال هكذا لمدة شهرين… بعدها أبلغني أنه وجد عملا براتب ثلاثة آلاف جنيه في مجال تخصصه… وقلت في نفسي عوضتني عوض الصابرين يارب… قبلت يداي شاكرة فرحة… لكن في ركن بعيد من فرحتي كانت تسكن الدهشة… واستكان القلق واستقر بعدها لاحظت علي ولدي عدم فرحته بالراتب المجزي الذي مكنه من شراء كمبيوتر وسيارة صغيرة بدأ في سداد أقساطها… ثم لاحظت تدهور حالته الصغيرة ونقصان وزنه الشديد… وكلما سألته عن السبب لا يرد..
ومرت الأيام وأنا أراه يذبل أمامي وأنا عاجزة عن تفسير ذلك أو إيقافه… إلي أن جاء ذات يوم من عمله ليبلغني أنه لن يكمل فيه وسيختم شهر يونية ويتركه.
تعجبت وسألته عن السبب فلم يجب… تركته فترة ثم عاودت السؤال فانفجر قائلا: أنا مش بشتغل في البرمجة… وكدبت عليكم… أنا بشتغل عامل أمن أيوة عامل أمن… لو كنت استنيت اشتغل بشهادتي كنت هاقعد عاطل عشر سنين تاني… كان مطلوب مني أعمل إيه؟ أنعي حظي؟ أيوه عامل أمن علشان أقدر أصرف علي نفسي وأشيل معاكم… وشهادتي بلا لازمة ولا قيمة… أنا كدبت لأن قسمة الحسرة بينا مش هاتغير الوضع… لكن الكتمان هايجيب لي انهيار وكان لازم حد يعمل معايا.
استرسلت السيدة: أنهي ابني كلامه الذي أخرسني… نهائيا وحتي هذه اللحظة لم اسأله لماذا كذب وفعل ما فعل دون علمي لماذا تحامل علي نفسه واحتمل فوق طاقته…
القهر يعشش في صدره وأنا عاجزه أن أطرده… وهزيمة عمره وشبابه تتراقص في شماتة أمامي وأنا لا أملك إلا الصبر حتي يجد عمل جديد… يساعده علي تفسير مهاراته فلا يمكن أن يكون أبناء اليوم من خريجي الجامعات مجرد حراس أمن.
واستكملت: لم آت إلي هنا لأشكو حالي وحسب وإنما لأجد حلا لولدي الذي سيترك عمله نهاية يونية… وسيفقد عمله ومصدر رزقه الذي يسدد به أقساط سيارته… ربما يساهم عمله في مجال تخصصه علي تخطي الأزمة النفسية التي يعاني منها حالي وينزع فتيل القهر من صدره قبل أن ينفجر ما تبقي لديه من أشياء جميلة.
إلي هذه السيدة أقول: أخطأ ولدك حينما أخفي عنك الحقيقة… لكن عليك أن تفرحي به لأنه تحمل المسئولية وقدر أهمية لقمة العمل حتي لو في غير تخصصه… إفرحي لأنه أراد لك ألا تكوني مهمومة وألا تقتسمي الإحباط والحزن معه وصدقيني أمثال ولدك هم من ينجحون في الحياة فقط أرشديه لما فيه سلامة صحته النفسية والجسدية وأنا علي يقين أنه سيجد العمل المناسب وسيجد نعمة في أعين قرائنا.