أرادها الشعب ثورة بيضاء…فهل حققت الثورة مآر بها المنشودة؟!
*تداعيات الثورة…وخسائر فادحة للأقباط في مختلف المؤسسات والقطاعات
في عشية يوم الأربعاء الموافق23 يوليو عام1952 لخصت جريدة مصر-لسان حال الأقباط آنذاك-مطالب منظمات الشباب القبطي والحزب الديموقراطي المسيحي بقيادة رمسيس جبراوي في مقال بدون توقيع تحت عنوان:الأقباط يطالبون بالمساواة والإنصاف عملا لا قولا جاء فيه أن مطالب الأقباط تتلخص فيما يلي:فصل الدين عن الدولة والسياسة الخاصة بها, رفع القيود الصارمة المفروضة علي بناء الكنائس, تمثيل الأقباط في المجالس النيابية بعدد يتناسب مع تعدادهم الفعلي, يسمع للأقباط بتعلم دينهم أسوة بإخوانهم المسلمين, أن يصرح رسميا بإذاعة الشعائر الدينية يوم الأحد وفي الأعياد الخاصة بهم, الوظائف والترقيات والبعثات, إضافة إلي الجندية والبوليس (والمقصود رفع نسبة المقبولين من الأقباط في هاتين المدرستين, المحاكم الشرعية والمدنية تكف عن التدخل المستمر في أحوالهم الشخصية, أن تمنع الحكومة أية دعاية للتفرقة بين المسلمين والأقباط في كافة الشئون العامة والحياتية…
لكن ماذا يقول التاريخ فيما بعد بشأن ما حدث تجاه قبول وتنفيذ هذه المطالب المشروعة من ثورة 23يوليو عام1952؟؟!!
*اندلاع ثورة23 يوليو 1952
اتخذت الثورة شعارا لها عبارة عنمئذنة المسجد تعانق منارة الكنيسة وكتب تحتها كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي كالتالي:الدين لله جل جلاله… لو شاء ربك وحد الأقوام. ولكن كيف كانت البداية؟
لقد بدأ الأمر كله بحركة تنظيم الضباط الأحرار, أو ما قيل وقتها أو بعدها حركة الجيش المباركة أو انقلاب عسكري ورحب الأقباط شأنهم شأن بقية الشعب المصري بقيام الثورة, ولكن مع مرور الأيام غلب عليهم التوجس خاصة فيما يتعلق بمشاركة الأقباط في حركة الجيش حيث إن تنظيم الضباط الأحرار لم يضم سوي قبطي واحد فقط ينتمي إلي الصف الثاني في الحركة وهو اللواء أنور عبدالله, والجميع كانوا من الإخوان المسلمين, وربما كان السبب في هذه الظاهرة أن الجيش كان خاضعا للنفوذ التقليدي للملك قبل عام1952 وسلطته الاستبدادية وسياساته التي كانت تهدف إلي إثارة التفرقة القومية, ولا يلحظ أن كان لحزب الوفد نفوذ مؤثر وفعال علي المؤسسة العسكرية المصرية, ومن ثم بقي الجيش حتي في فترات حكمه القليلة يحمل في تكوينه العضوي أثرا للتفرقة بين الأقباط والمسلمين وبخاصة الرتب العالية. فجاء تنظيم الضباط الأحرار علي شاكلة المؤسسة التي انبثق منها, وسرعان ما أحدث هذا الانقلاب أو تلك الحركة العسكرية تغييرا جذريا في المجتمع المصري علي كافة المستويات اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, وكانت البداية بتحديد الملكية الزراعية ثم تمصير المصالح والشركات الأجنبية ثم إجراءات تأميم الرأسمالية المحلية التي قام بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في يوليو 1961/1960, والبدء في إقامة القطاع العام في الصناعة والتجارة والقطاع التعاوني في الزراعة….إلخ, وغيرها من القرارات والسياسات التي أخدتتحولا اشتراكيا أورأسمالية دولة, وكاد هذا القرار أن يقضي علي نسبة وعدد ضخم من المهن والوظائف والصناعات والأعمال المهنية والفنية التي كان الأقباط فيها بنسبب عالية وهي قطاع النقل(شركات الأتوبيس داخل القاهرة وبين الأقاليم) وكانت خسارة الأقباط فيها بنسبة 75% , حيث أممت شركتي أتوبيس إخوان مقار والأسيوطي, وكانتا تغطي أكثر من ثلاثة أرباح القاهرة, والباقي تغطيه شركة أتوبيس أبو رجيلة, كما أممت شركةحكيم مرجان التي كانت تغطي القطر كله, وكانت تعد الشركة الكبري الوحيدة تقريبا في النقل بين الأقاليم. وفي مجال الصناعة أممت علي سبيل المثال لا الحصر مصانعفؤاد جرجس, عطيه شنودة,تاجر, تكلا, علي الجانب الآخر لم تكن هناك مصانع ذات أهمية باستثناء أحمد عبود. وفي البنوك كانت غالبية رأس المال المساهم في بنك القاهرة لموريس دوس وغيره من الأقباط, وكذلك الحال بالنسبة لبنك مصر وغيره من البنوك الأخري, ولا يمكن إغفال قطاع الأراضي الزراعية, فقد أصابت قوانين الإصلاح الزراعي نسبة كبيرة من الأقباط, وتصادف أن نسبتهم بين كبار ملاك الأراضي الزراعية إلي عدد المسلمين كانت أعلي من نسبتهم العامة, مما أدي إلي انتقال الملكية إلي صغار المزارعين والمعدومين من الفلاحين, وهؤلاء غالبتهم العظمي من المسلمين, لذا بصرف النظر عن النتائج الاقتصادية للإصلاح الزراعي التي ظهرت بقوة علي المدي الطويل وارتبطت بأسباب تدهور الإنتاجية الزراعية المصرية, بالتأكيد لم تكن قوانين الإصلاح الزراعي تستهدف هذه النتيجة السيئة, وإنما كل ذلك جاء تلقائيا دون تخطيط أو قصد طائفي. وفي هذا الإطار يقول قداسة البابا شنودة الثالث:إن الرئيس جمال عبد الناصر كان يفكر في صالح البلد دون تفرقة بين المسلم والمسيحي, فلما قام بالإجراءات الاجتماعية من تمصير وتأميم كان يفكر في البلد لا في الطوائف والأديان, فقد كانت سياستة وطنية عامة. وبالنسبة للوضع الوظيفي للأقباط بعد الثورة نجد أنه لم يتم تعيين سفير قبطي واحد بينما كان هناك عدد كبير منهم قبل عام 1952 مثل ديمتري رزق, عدلي أندراوس, سيروستريس سيداروس, أنيس رزق, ومن قبل هؤلاء جميعا كان واصف غالي وصليب سامي ممن تولوا وزارة الخارجية.
وابتداء من عام 1953 بدأت كل الأحزاب تنسحب عن الساحة السياسة,وبالتالي لن يعد لأي قبطي يرشح نفسه للانتخابات أن ينجح مادامت لا توجد أحزاب سياسية يستند إليها وتدعمه, نتيجة لذلك لم ينجح في انتخابات مجلس الأمة عام1957 قبطي واحد.
وفي الوقت ذاته وضعت كثير من المدارس التبشيرية والأجنبية تحت الرقابة الصارمة من الدولة, ووحدت المناهج التي يدرسها الطلبة, مما قرب من مفاهيمهم وقيمهم وأتاح قدرا من المساواة في فرص التعليم وكذلك التوظيف, وذلك بالتوسع في فرص التعليم بمراحله الدراسية المختلفة حتي الجامعة والكليات العسكرية, ومن ناحية أخري التحاق الطلبة بالتعليم العالي عن طريق مكاتب التنسيق بحيث أصبح مجموع الدرجات في إتمام الدراسة الثانوية هو معيار القبول في هذا المعهد أو تلك الكلية, من ناحية أخري, وأوجد هذا فرصة للمساواة في فرص التعليم, ثم بدأ العمل بإلحاق الخريجين بالوظائف والأعمال المختلفة عن طريق مكاتب العمل أولا ثم القوي العاملة بعد هذا الأمر الذي حقق ذات القدر من المساواة التامة في فرص العمل لشباب الخريجين (وذلك بصرف النظر عن الآثار السيئة التي نجمت عن هذا الأسلوب العقيم علي المدي الطويل), إلي جانب الالتزام بترقية العاملين بالحكومة والقطاع العام بالأقدمية حتي الدرجة الثالثة, مما كفل ذات القدر من المساواة أيضا.
في النهاية يمكننا القول بأنه كان من الممكن أن تؤدي مجانية التعليم إلي تقوية وتوثيق الروابط الوطنية, غير أن الذي حدث بعد هذا أن جمال عبد الناصر في إحدي مراحل صراعه مع الإخوان المسلمين قام بالمزايدة عليهم تكتيكيا بإصدار قرارين حاسمين هما: جعل الدين مادة أساسية في مختلف مراحل التعليم تؤدي إلي نجاح أو رسوب كغيرها من المواد الأخري المقررة بالمناهج الدراسية, كما أعاد افتتاح جامعة الأزهر وأعاد تنظيمها بشكل عصري جديد علي غرار الجامعات الأجنبية, إلا أنها سرعان ما صارت قاصرة علي الطلاب المسلمين ممن يرغبون في دراسة فروع العلم المختلفة إلي جانب المواد الدينية الأساسية بها.
علي أية حال يمكن القول بأن نوعا من المساواة الطبقية قد تحقق بين المواطنين المصريين, فقد أضيرت المصالح الأجنبية كلها أيا كانت هويتها الدينية,كما أضيرت المصالح الرأسمالية المحلية أيا كانت الطائفة التي تنتمي بها, كما أن الفئات الاجتماعية الواسعة التي استفادت من الأرض والصناعة لم يفرق القانون بين طوائفها.
*إيجابيات الثورة:
بالرغم من ذلك كان هناك الجانب الآخر للثورة الذي يتعلق بالتطور التاريخي العام لمبدأ الاندماج القومي بين أفراد الشعب المصري مسلمين وأقباطا يمكن إيجازه من خلال رصد الملامح التالية:
أولا: أتت الثورة فطردت الملك فاروق بعد قيامها بثلاثة أيام, وما لبثت أن ألغت النظام الملكي الذي كان سائدا من قبل في 18 يونية 1953, بما يعني أنها قضت علي مؤسسة سياسية كانت بتكوينها الفكري وسلطاتها الاستبدادية ومصالحها الهادفة إلي إقامة الخلافة الإسلامية تعوق التوحد القومي الأمثل للجماهير, وأمكن كذلك لثورة 23 يوليو إجلاء الاحتال البريطاني عن مصر, وتم ذلك في 18 يونية سنة 1956, وأزيلت بذلك واحدة من أهم القوي السياسية المرشحة لإذكاء روح التفرقة بين المسلمين والأقباط.
ثانيا: حدد الاتجاه الإصلاحي للثورة عددا من الإصلاحات الاجتماعية التي كان من شأنها تذويب بعض المؤسسات التقليدية القائمة التي كانت تعوق التوحد القومي الأمثل مثل: إلغاء نظام الوقف الأهلي.
ثالثا: يتعين علينا هنا الإشارة إلي ما كان من الثورة بالنسبة لحركة الإخوان المسلمين فبعد نحو عامين من الملاينة والمجافاة, تم حسم موقف الثورة ضدهم بهدف التصفية الشاملة لهم رغم العلاقات الوثيقة بين الضباط الأحرار ومجموعات حسن البنا المسلحة منذ الأربعينيات.
*علاقة الثورة بجماعة الإخوان المسلمين
بعد قيام الثورة سمحت لجماعة الإخوان المسلمين بالعمل حتي بعد حل الأحزاب السياسية في يناير عام 1953, وذلك علي أساس أن جماعة الإخوان ليست حزبا مثل بقية الأحزاب الأخري. كما سمحت الثورة لهذه الجماعة بامتداد واستمرار التعاون الذي تم منذ البداية بينها وبين تنظيم الضباط الأحرار, فإن الإخوان كانوا بمثابة التنظيم السري الأساسي الذي عرف بأمر الثورة قبل وقوعها, استنادا إلي ما ذكره السيد كمال الدين حسين -أحد أعضاء الحركة- قائلا: في ليلة الثورة اتصلت أنا وعبد الناصر بالإخوان المسلمين, وأطلعناهم علي كل التفاصيل, وثاني يوم كان لهم متطوعون علي طريق السويس مع الجيش لاحتمال تحرش الإنجليز برجال الثورة, وهو أمر لم يكن ليأتي إلا بموافقة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين, ولم يكن يمض أسبوع واحد علي حركة الجيش حتي أصدر الإخوان المسلمون بيانا برأيهم في الإصلاح المنشود في العهد الجديد, وهو بيان يوضح أن الإخوان نظروا إلي الحركة باعتبارها ثورة, بينما كان أصحابها ينظرون إليها علي أنها انقلاب عسكري, ويذكر أنور السادات -أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار آنذاك- أن الإخوان أصبحوا قوة ضخمة في زمن وجيز للغاية, وأن الثورة حسبت أنهم حلف طيب لحركتها الثورية علي الأقل في أيامها الأولي, وأصبح السادات نفسه هو أداة الوصل بين الضباط الأحرار والمرشد العام للإخوان المسلمين, وكان هدف الإخوان أن تنتشر تعاليم الدين الإسلامي في كل فروع الجيش…, وما لبث أن تعاطف كثير من الضباط معهم فعلا في بدء قيام الثورة, وذلك اعتقادا من الضباط بأنهم جدار حصين يستندون إليه في تحقيق مآربهم, وفي العاشر من ديسمبر عام 1952 ألفت الثورة دستور عام 1923 وصاغت دستورا جديدا نص علي: إن الإسلام هو دين الدولة مع إطلاق حرية العبادة لجميع الناس, وتشكلت لجنة الخمسين لوضع أول دستور جمهوري ضمت ستة أقباط وعدد كبير من الإخوان المسلمين البارزين الذين طمعوا في المشاركة الفعلية في السلطة, وما لبثت العلاقات بينهم وبين مجلس قيادة الثورة أن ساءت وتدهورت سريعا, ويعزو السادات هذا الخلاف إلي أن ضباط الجيش كانوا يتوقعون بث العصرية في مصر تماشيا في ذلك مع الخط الغربي التكنولوجي المتطور, وإقامة حكم جمهوري علماني, وإن كان لا يبتعد مطلقا عن الدين, بينما كان الإخوان جماعة دينية تقليدية أرادت أن تقيم دولة إسلامية تتمسك بأصول الدين قبل أي شئ آخر, والحقيقة أنه لولا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتحولت مصر حتي وقتنا هذا إلي إيران أخري, فبلغ صدامه مع جماعة الإخوان ذروته في حادث محاولة اغتياله يوم 26 أكتوبر عام 1954 علي يد محمود عبد اللطيف -أحد زعماء الإخوان- بالإسكندرية, فكانت مناسبة مواتية اغتنمتها الثورة لتصفية حركة الإخوان تماما من خلال محكمة جديدة عقدها لهم الرئيس الراحل عبد الناصر تألفت في الأول من نوفمبر عام 1954 باسم محكمة الشعب, وذلك بعد أن وضح لمجلس قيادة الثورة رغبة الجماعة في فرض الوصاية التامة علي الحركة الناشئة, وبلغ عدد الذين حكمت عليهم محكمة الشعب ثماني مائة وسبعا وستين شخصا بأحكام متنوعة منها إعدام ستة, وظلت قيادات الإخوان وراء القضبان بعد وفاة الرئيس عبد الناصر, نلاحظ بعد ذلك عودة تنظيم جماعة الإخوان إلي ممارسة النشاط السياسي والديني من جديد في فترة السبعينيات بعد الاحتجاب القهري الطويل في المعتقلات والسجون ومراكز التعذيب منذ عام 1954 وحتي بداية حكم الرئيس الراحل السادات, حيث بدأ التنظيم يسعي نحو العلنية وطلب الترخيص لممارسة النشاط كجمعية دينية مستقلة برئاسة السيد كمال الدين حسين والسيد حسين الشافعي ولكن فشلت محاولاتهم وتأكد لهم أنهم لن يستطيعوا أن يتمتعوا بالامتيازات السابقة في أوائل عهد الثورة, فقرروا العمل بالقوة بحيث يكون نشاطهم فرضا عمليا بالإجبار, فأصدروا مجلة لإعلان مبادئهم وبياناتهم الخاصة باسم مجلة الدعوة ونشطت حركة التجنيد في المواقع المؤثرة في الرأي العام وبين شاغلي الوظائف التي تملك تسهيل نشاط الجماعة أو التغاضي عنه, ثم تقدم التنظيم خطوة ثالثة ونادي علي صفحات مجلته بضرورة عودة الإخوان رسميا والاعتراف بحقهم في بناء تنظيمهم المستقل برئاسة قائدهم الجديد صالح أبو رفيق.
ويتضح موقف الرئيس الراحل عبد الناصر من هذه الجماعات من خلال خطابه الذي ألقاه في عام 1954 كما يلي: يا إخوتي… لقد مددنا أيدينا وقلنا دائما أننا نريد لهذا الوطن حرية وديموقراطية حقيقية… وقلت في هذا المكان لن تقوم حرية أو ديموقراطية لهذا الوطن وهناك جماعة لها جهاز سري, وتعتمد علي الإرهاب والتهديد… لقد أردناها ثورة بيضاء ومددنا أيدينا للتعاون مع الجميع حتي نلم الشمل ونسير نحو العمل والبناء, ولكننا إذا تركنا الخيانة باسم الدين والإسلام نكون قد فرطنا في حق الرسالة العامة والأمانة في حق الثورة وأهدافها الأساسية المعلنة لكم….
*إلغاء التفرقة العنصرية في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر:
يذهب بعض الباحثين القبط إلي أنه في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر لم يختف التعصب الديني مطلقا ولكن ضعف كثيرا إذا ما قورن بعصور سابقة أو بعصر الرئيس الراحل السادات الذي اتخذ منذ بداية حكمه موقفا متشددا من الأقباط خاصة فيما يتعلق بعمليات بناء وترميم دور العبادة المسيحية, وتطبيق الشروط العشرة والخط الهمايوني, وأدي ذلك إلي حدوث عنف طائفي حاد في عهده, في حين لم يكن الرئيس الراحل عبد الناصر أيديولوجيا مضطرا إلي أن يلعب بورقة الفتن الطائفية أو يستخدم الدين في تحقيق مآربه وأهدافه, وفي هذا الشأن كتب البروفيسور إدوارد واكيه -الأستاذ حاليا بجامعة فوادهام بنيويورك- يقول عنه: وفي جميع المناسبات التي تعطي انطباعات لاتجاه عبد الناصر ومشاعره تجاه الأقباط يمكن استنتاج قاعدة واحدة وهي أن موقف الأقباط لا يحتل حيزا في محيط اهتماماته, وشعور عبد الناصر نحو الكنيسة عموما ليس شعورا كارها لها, ولككنه يعتبر الكنيسة القبطية كنيسة مصرية وكنيسة وطنية.
ويحق لنا أن نذكر هنا أنه في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر أكدت مصر مساواة جميع مواطنيها أمام القانون في حقوقهم وفي واجباتهم بصرف النظر عن أية اعتبارات أخري, فانضمت مصر إلي الاتفاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966, وفي نفس السنة أيضا انضمت إلي الاتفاق الدولي للحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, أما في عام 1960 فكان الاتفاق الدولي ضد التفرقة في حقوق التعليم, وغيرها من المعاهدات والوثائق الدولية الأخري, ولا ننسي التبرعات التي قدمتها مدرسة مكارم الأخلاق الإسلامية لمساعدة الأقباط في بناء الكاتدرائية المرقسية بشارع رمسيس, وفي يناير عام 1956 حين أراد الأقباط في قرية أبو مناع مركز دشنا عمل ترميمات وتوسعات لكنيستهم تسارع مسلمو القرية لجمع التبرعات اللازمة لإنجاز العمل, وحين كان يحضر أسقف مطرانية قنا لزيارة القرية نفسها كان ينزل ضيفا علي عائلة مسلمة تكريما وإعزازا لأقباط القرية, ويذكر الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل: إنه حينما أراد قداسة البابا كيرلس السادس بناء كاتدرائية جديدة تليق بمكانة الكنيسة القبطية تلقيت دعوة من قداسته لزيارته وحدثني فيما إذا كان يمكنني أن أتحدث مع سيادة الرئيس في هذا الشأن…, وعلي الفور ساهمت الدولة بنصف مليون جنيه يدفع نصفها نقدا والباقي عينيا بواسطة شركة المقاولات التابعة للقطاع العام التي سيعهد إليها بعملية البناء, وقبلها كان سيادة الرئيس قد تبرع من حسابه الشخصي بمائة ألف جنيه, وقام بوضع حجر الأساس للكاتدرائية بنفسه في 24 يوليو عام 1965,وفي 25 يونية عام 1968 شارك بالحضور في حفل الافتتاح للكاتدرائية, مما كان له أكبر الأثر في نفوس الأقباط, وفي 12 أبريل عام 1968 عندما أعلنت الكنيسة ظهور السيدة العذراء مريم بكنيستها في الزيتون, ذهب الرئيس الراحل عبد الناصر ومعه حسين الشافعي سكرتير المجلس الأعلي وقتها إلي هناك ووقفا في شرفة المعلم أحمد زيدان كبير تجار الفاكهة في منزله المواجه للكنيسة ليتحقق بنفسه من رؤيتها وظل عبد الناصر ساهرا إلي أن ظهرت العذراء في الخامسة صباحا, وأصدر الاتحاد الاشتراكي آنذاك بيانا يؤكد هذا الظهور التاريخي.
وأغلب الظن أن عبد الناصر فيما اتخذه من إجراءات اجتماعية سواء تمصير وتأميم كان يفكر في صالح البلد, وكانت سياسته وطنية خالصة تماما… بالرغم من أن مؤرخي الثورة أكدوا أن الأقباط لم يكونوا أهل ثقة لرجال الثورة بدرجة كافية, لأن التنظيم الثوري كثر به من ينتمون إلي الإخوان المسلمين أو إلي مصر الفتاة… لكن عبد الناصر كان منحازا في قراراته الخاصة بالمؤسسة الدينية لرجال الكهنوت, والبداية كانت في موقفه من لائحة انتخاب البطريرك عام 1957 التي تضمنت مطالب رجال الدين, وأعدها أساقفة الكنيسة آنذاك, وصدر بها قرار جمهوري, تم انتخاب البابا كيرلس السادس علي أساسها, وبعدها موقف عبد الناصر من رجال الدين المسيحي وشخص قداسة البابا الذي واجه حربا بسبب تفرغه للصلاة والعبادة علي حساب أعمال الكنيسة, لذا هاجمته صحيفة مصر وهو ما دفع الرئيس عبد الناصر لإصدار قرار فوري بإغلاقها لتطاولها علي قداسة البابا, الذي ربطته علاقة وثيقة معه رغم التوتر الذي كان سائدا في البداية بينهما.
*المسألة القبطية
ومع مرور الوقت عجزت الدولة عن العودة بالمسألة القبطية إلي حجمها الطبيعي بوصفها قضية عامة تتعلق بالحقوق القانونية للبلاد, وبدا رد فعلها بطيئا إزاء الاستجابة إلي مطالب الأقباط التي تدخل في هذا النطاق, مثل إلغاء القيود الصارمة المفروضة علي بناء الكنائس, وإصدار قانون موحد لدور العبادة, إدراج كافة الأعياد المسيحية ضمن الأعياد الرسمية القومية التي يعطل فيها العمل بالدوائر الحكومية الرسمية أسوة بالأعياد الإسلامية المختلفة, التصدي بحزم للتمييز الواضح ضدهم لا سيما وأن الاستجابة لتلك المطالب تعد محاولة لإيجاد نقطة توازن بين الجانبين لعلاج تعدد الاحتكاكات الطائفية بين الأقباط والمسلمين خاصة في ظل مناخ عالمي صارت فيه مسائل الأقليات الدينية والعرقية علي قائمة أجندة المجتمع الدولي.
**مراجع الدراسة
*مسلمون وأقباط في إطار الجماعة الوطنية-طارق البشري.
*قصة ثورة يوليو عام 1952-الجزء الثاني-أحمد حمروش
*الأقباط في الحياة السياسية المصريةد.سميرة بحر-إصدار عام 1984
*الأقباط.. النشأة والصراع من القرن الأول الميلادي إلي القرن العشرين-ملاك لوقا
*وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها المعاصر-الجزء الثاني-الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني
*مصير الأقباط-أسامة سلامة
*نعم أقباط-لكن مصريون-د.ميلاد حنا
*فلسفة الثورة-الرئيس الراحل جمال عبد الناصر
*أقلية معزولة-البروفيسور إدوارد واكين-إصدار عام 1963
*ثورة علي ضفاف النيل-الرئيس الراحل أنور السادات
*أقباط القرن العشرين-ملاك لوقا
*أقباط ومسلمون-جاك تاجر