أصوات خفيفة حبيبة أصوات أولئك الذين ماتوا أو أولئك الذين بالنسبة إلينا ضائعون مثل الموتي تتكلم في أحلامنا أحيانا وأحيانا في الفكر يسمعها العقل ومع أصدائها تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولي مثل موسيقي بعيدة في النيل تخبو.
هذا القول للشاعر اليوناني كفافيسجاء في مقدمة رواية لا أحد ينام في الإسكندرية التي كتبها الكاتب والروائي السكندري إبراهيم عبد المجيد عام 1996 حيث كان الجو مشحونا بالاحتقان الطائفي في تسعينيات القرن الماضي… هذه الرواية التي عادت إلي الذاكرة فور وقوع حادث انفجار كنيسة القديسين في الإسكندرية في ليلة رأس السنة,حيث اكتست عروس البحر المتوسط بالسواد حزنا علي ضحاياها الأبرياء وتلطخت المدينة البيضاء بدماء الغدر,وبهذا الحادث الدموي اغتيلت فرحة مصر بقدوم عام جديد تمني فيه الجميع الخير والسلام لوطنهم.
أقباط مصر ومسلموها
يؤرخ عبد المجيد في روايته لمدينة الإسكندرية وناسها خلال سنوات الحرب العالمية الثانية,ويصور الدمار الذي لحق بالمدينة بعد أن اجتمعت جيوش العالم في مدينة العلمين والغارات التي أزهقت أرواح الكثيرين وجعلت الناس لاتستطيع النوم في تلك المدينة التي تشوهت العديد من معالمها إلا أن هذه المأساة لم تستطع أن تقضي علي تلاحم مسلمي مصر وأقباطها ملقيا الضوء علي نشأة المدينة وجذورها القديمة,من خلال الإمعان في سرد تفاصيل المدينة التي صارت بطلا حقيقيا في الرواية يحرك الأحداث ويشكل المصائر هذه الرحلة التي أخذنا إليها الكاتب عبر تاريخ معالم الإسكندرية استعان للإعداد لها بالعديد من الكتب ومذكرات القادة والسياسيين لتلك الحقبة بالإضافة إلي الصحف اليومية وكتب تاريخية تحكي عن تاريخ مدينة الإسكندرية تلك المدينة التي تلاقي فيها أناس من الشرق والغرب فمثلا نجده يصف أحد معالم الإسكندرية قائلا:إن عامود السواري هو اسم العامود الكبير الذي أقامه أهل الإسكندرية تخليدا لذكري الامبراطور الروماني دقلديانوس قدموه إليه هدية وتقديرا للرخاء الذي شاع بينهم نسوا أن دقلديانوس هو أكبر من عذبهم وعذب المسيحيين بوجه عام في مصر وفلسطين عامود السواري يتوسط منطقة راقوده في منتصف شارع كرموز تقريبا يفصله عن الشارع سور كبير يحيط بالمنطقة الأثرية كلها.
وفي وصفه لمكانة مدينة الإسكندرية في التاريخ وعظمتها يصدر المؤلف أيضا روايته بقول الروائي البريطاني لورانس داريل: البحر المتوسط بحر صغير للغاية إن عظمته وامتداد تاريخه يجعلاننا نتخيله أكبر مما هو عليه الآن إلا أن الإسكندرية لايقل واقعها عما يمكن تخيله عنها.
مزج الابتهالات بالتراتيل
لا يوجد فارق بين مسلم ومسيحي, هذا ما تصوره أحداث رواية لا أحد ينام في الإسكندرية من خلال الصداقة العميقة التي تربط بين بطلي الرواية, حيث تتوحد الهموم, وتمتزج المصادر التي تجمع بين جميع شخصيات الرواية, وحين تشتد الغارات علي المدينة تمتزج ابتهالات الشيخ مجدالدين, بتراتيل دميان, ويتضرع الاثنان إلي رب واحد برفع البلاء عن المدينة, وفي نفس الوقت لا يبالغ في تصوير العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها, التي تشوبها بعض المشاكل من حين إلي آخر حينما ترتبط مشاعر الحب بين شاب وفتاة مختلفين في الديانة وهذا ما يظهره حيث تظهر سحب التوتر في العلاقة بين الأسرتين, وغيوم الطائفية,وهذا بلا أدني شك أعطي للرواية صدقا وواقعية حيث مزجت الخيال بالواقع فانتجت أحداثا صادقة تتلامس كثيرا مع الواقع المعاش.
لحظة إنسانية
تدور أحداث روايةلا أحد ينام في الإسكندرية حول مجدالدين الذي يغادر قريته, بعد أن حصد الثأر رؤوس إخوته, يترك أرضه وبيته,ويتجه مصطحبا زوجته وابنته الرضيعة إلي الإسكندرية, المدينة التي عشقها ويقيم فيها أخوه البهي, صاحب المغامرات النسائية, يحط مجدالدين رحاله في غرفة البهي وسط بيت لأسرة مسيحية, إلا أن البهي يموت في مشاجرة تزعم فيها أبناء بحري ضد الصعايدة, ويتصادف مرور ديمتري صاحب المنزل ودميان لحظة موت البهي, فيقومان بمساعدة مجدالدين علي دفن أخيه فيصف الكاتب هذا المشهد قائلا:مشت سيارة الإسعاف حاملة القتيل…مسجي فوق نقالة في الوسط…بين مقعدين طويلين يجلس علي احداهما دميان ومجد الدين…وعلي الآخر رجل الإسعاف…كانت الحركة بطيئة للعربة كحركة جواد هادئ…ويضرب مجد الدين من الغيظ الهواء…ربت دميان النحيل علي كتفه واحاط بذراعه…كان مجد الدين قد اندفع في بكاء أليم…انتهت قصة البهي بيد البهي….
كرامات القديسين والأولياء
تتوطد العلاقة بين مجدالدين تحديدا ودميان, يتعرفان إلي قصة بعضهما بعضا, يبحثان سويا عن عمل, يستشفع مجدالدين بوليه سيدي جابر والمرسي أبو العباسي, بينما يتوسل دميان بكرامات القديس مارجرجس حتي يعثرا علي وظيفة ثابتة كعاملين في السكة الحديد فنري الكاتب يقول علي لسان البطل دميان أثناء حديثه مع مجد الدين: ساعات أقول لنفسي…ياواد أنت صايع بلا عمل لماذا لا تذهب إلي الشهيد جورجيوس يشوف لك شغلانه ثابتة ثم أنسي…رغم أني أعرف لمارجرجس معجزات كثيرة…المسلموت أحيانا يأتون في المولد ويطلبون منه المساعدة…مارجرجس ولي كبير طبعا أنت تعرف الأولياء…تعرف أن مجلس الإسكندرية حاول هدم مسجد أبو الدرداء لتوسيع الطريق للترام…لكن كل من رفع معولا علي المقام شلت يداه…فتركوه مكانة وصارت الترام تدور حوله وأنا أعرف أن السيد بدوي كان يأتي بالأسري من الأعداء أنت من طنطا وتعرف القصة أكثر مني ثم يا أخي أنا محتار مارجرجس له كرامات والسيد بدوي وأبو الدرداء لهما كرامات كلهم علي حق ليه يكون فيه قبط ومسلمين؟
البهجة والسعادة تجمعهما
في مقابل تلك العلاقة بين الصديقين تتوثق علاقة أخري حميمة بين زهرة زوجة مجد الدين وأفراد عائلة دميان,تعيش بينهم كواحدة منهم تتعلق بالفتاتين كاميليا وإيفون وأمهما مريم فيقوم الكاتب بوصف تلك العلاقة قائلا:كان الخواجة ديمتري وزوجته يتقدمان لتهنئة جيرانهما بحلول رمضان خرج مجد الدين مع دمتري ودخلت زهرة مع الست مريم إلي حجرتها المضاءة بالكهرباء رأت الحجرة بيضاء باهرة والبنتين إيفون وكاميليا تكدان تشتعلان من البهجة وزهرة لم تعد تشعر بالخجل الآن وسألتها: لماذا تنظر دائما إليها بهذه الدهشة؟ فقالت لها كاميليا أرصلك جميلة جدا وضحك الجميع.
كيف ستكون الإسكندرية بدون دميان؟
ينتقل الصديقان للعمل في العلمين غرب الإسكندرية يحيا مجد الدين ودميان في عملهما الجديد وسط حشود جنود من دول مختلفة أتت للمشاركة في معركة العلمين الشهيرة تشتد وطأة الحرب والقذف في المكان يهرب الصديقان ولكن يموت دميان في الطريق ويصف لنا الكاتب مشاعر مجد الدين لحظة فراق دميان قائلا:دميان دميان ويرتفع صوته فجأة ثم يتلاشي ويرتعش ويقول في نفسه فبأي إلا ربكما تكذبان فكل من عليها فإن ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي إلا ربكما تكذبان وتسقط دموعه غزيرة دميان أما مجد الدين فيكتب له النجاة ويقرر العودة إلي الإسكندرية ويقول لزوجته لا أعرف كيف ستكون الإسكندرية دون دميان ولا كيف ستكون عندي القدرة علي العمل دون أن يكون معي ومسح دمعه الذي ترقرق ولكن زوجته لم تشأ أن تثنيه عن العودة إلي المدينة التي ذهبت إليها مكرهة وتركتها مكرهة إذ خلفته وراءها ستذهب هذه المرة راضية مسرورة حتي لو لم تجد الناس كما كانوا بالروح الصافية والمرح المدينة البيضاء زرقة البحر والسماء ستعيد الروح لأبنائها.
الروائي إبراهيم عبد المجيد في سطور
0 إبراهيم عبد المجيد من مواليد الإسكندرية عام .1946
0 حاصل علي ليسانس القلسفة من كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام1973م.
0 تولي الكثير من المناصب الثقافية آخرها رئاسة تحرير سلسلة كتابات جديدة.
0 أصدر عشر روايات منهاالمسافات,الصياد واليمام,ليلة العشق والدم,البلدة الأخري,بيت الياسمين,لا أحد ينام في الإسكندرية ,طيور العنبر , وبرج العذراء,عتبات البهجة.
*نشرت له خمس مجموعات قصصيةالشجر والعصافير إغلاق النوافذ,فضاءات ,سفن قديمة,وليلة أنجينا.
0 ترجمت العديد من أعماله مثل لا أحد ينام في الإسكندرية وبيت الياسمين.
0حصل علي جائزة نجيب محفوظ في الرواية من الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 1996 عن روايته البلدة الأخري واختيرت روايته لا أحد ينام في الإسكندريةكأحسن رواية لعام .1996