يجوبالمسحراتيالحارات والأزقة ممسكا بطبلة ليوقظ الناس للسحور,لكنه هنا لا يقف عند حدود الزمان والمكان,بل ينتقل بنا من الاستيقاظ إلي اليقظة,اليقظة بمعناها العميق حين تأخذني عبر لغة بسيطة,لكنها البساطة الأسرة,وما أصدقها حين تقرع طبولها لنقرأ عن انتحار التاريخ,ووفاة المثل العليا,مكافحة الأمية السياسية,إضافة إلي معان أخري لايستطيع أن يوقظ بداخلها إلا هذا النوع من المسحرين الجادين الذي يعون…في زمن يمتدح الجهل..الدور الذي يجب أن يلعبهالمسحراتيومن أجل هذا اختار الكاتبمحمد خطابكلمة المسحراتيعنوانا لهذا الكتاب الذي طبعته دار الهلال عام1955 ثم أعادت طبعه الهيئة العامة لقصور الثقافة في هذا العام ضمن سلسلةذاكرة الكتابةحيث جمع فيه المؤلف العديد من المقالات التي حاول فيها إيقاظ المواطنين أو علي الأصح إعدادهم للاندماج في اليقظة الكبري حيث نراه يقول في مقدمة كتابه:لم يكن في مقدوري أن أقف موقفا سلبيا أشاهد من أعماقه الخائرة تلك العهود السود التي سبقت الثورة عندما كانت تنزل بالبلاد شتي الكوارث فاندفعت ثائرا علي مجلس الشيوخ…محاضرا في النوادي والمجتمعات..كاتبا في جميع الصحف والمجلات.
وكانت الحرب العالمية الثانية مشبوبة في هذه الأثناء,وعندما كان الكاتب يطالع تفاصيل المذابح الرهيبة التي كانت تخلفها الحرب في أعقابها,خطر بباله قول أحد قدماء الفلاسفة عندما صاح في الناس قائلا:لماذا لا نعيش جميعا في سلام وانسجام…ونحن جميعا رفاق سفر في سيارة واحد…إذا رفعنا أبصارنا إلي أعلي….وقعت علي نجوم واحدة في سماء واحدة تظللنا جميعا وظل هذا السؤال يشتعل في قلب الكاتب إلي أن اتضح له أن العقل الإنساني هو السبب في كل ما يعانيه البشر من شرور وويلات,فقد تعود الناس أن يؤمنوا بأوضاع انحدرت إليهم من أسلافهم فنتج عن ذلك أنهم لم يحاولوا أن يفكروا في غيرها.مشيرا إلي أن كل هذا يرجع إلي سبب بسيط وهو:أن الانقياد أسهل بكثير من التكفيرونظرا لضيق المساحة المخصصة لنا وغزارة الأفكار والمقالات التي يحتويها هذا الكتاب نقدم لقارئنا العزيز بعضا من هذه المقالات التي إذا كانت قد تباينت في مواضيعها إلا أنها تجتمع علي هدف واحد ينشده الكاتب وهو أن يعم المحبة والخير والسلام والسعادة جميع سكان الأرض.
طبل أكبر حجما وأشد دويا
ويبدأ الكاتب كتابه بمقالة المسحراتيوالتي يشير فيها إلي أنه ذهب إلي مصيف رأس البر ليستمتع بالهدوء والراحة والبعد عن كل ما يثير العقل والنفس معا,ولكن مع حلول شهر رمضان لم يهنأ له الحال بسبب المسحراتي الذي بدأ يجوب بين العشش وهو يقرع طبلته لإيقاظ المصطافين للسحور,وبالرغم من اعترافه بالخدمة الجليلة التي يقوم بها المسحراتي إلا أنه أحس بغضب جم يعتربه من هذا الشخص الذي يوقظه عندما يبدأ النوم يداعب أجفانه,وهو الذي يعاني من أرق-منذ فترة طويلة-مع انهيار في بعض أجهزة الجسم,ولكن عندما رأي وجهه الذي يبدو علي ملامحه دلائل الطيبة واطمئنان النفس تسرب دخان غضبه ودعاه إلي الجلوس معه وبعد حديث طويل دار بينهما نظر الكاتب إلي الطبل الصغير قائلا:أليس لديك طبل أكبر حجما وأشد دويا؟فأجاب:المسحراتي:إن هذه الطبل كفيل بإيقاظ سكان أكبر عشة في رأس البرفأجابه الكاتب وقد مر بخياله جميع الأوضاع المتدهور التي كانت تسود مصر حينئذ قائلا:إني لا أريد منك إيقاظ سكان عشة…ولكن أطلب منك إذا استطعت أن توقظ أمة بأسرها.
انتحار التاريخ
ويتأسف الكاتب في مقالةانتحار التاريخعلي أن التاريخ أصيب في القرون الأخيرة بأزمة في الضمير نشأت عندما شعر الناس بالريبة في أمره,وذلك بعد أن عاش سنينا موضع ثقتهم واحترامهم,وبالرغم من أن التاريخ عاصر النضال المستديم في الحياة بين القديم والجديد,بين الذي يحتضر والذي يولد,إلا أنه شعر بالملل مما جعله يفكر في أن يلهو قليلا ليعالج ما حل بنفسه من ضجر,فأعلن خلال الدهور أنه أفرد كتابا ليحفظ فيه أسماء العظماء من البشر,فتهافت الكثير لكتابة أسمائهم وكان في مقدمتهم (جنكيزخان,الإسكندر الأكبر,هتلر,وموسيليني) حيث قدم كل منهم مؤهلات ترشيحه للعظمة والخلود والتي لم تحتفظ كثيرا إلا في عدد الأرواح البشرية التي أزههقها المرشح للمجد علي مذبح البطولة,وبعد ذلك أجال التاريخ بصره في وثائقه المكدسة ومستنداته المبعثرة فلم يجد أثرا لأي مخترع فغضب وجمع أعوانه وبعد بحث دقيق اتضح له أن كل ما ينفع الناس هو وليد جهود كثير من الأفراد ليعم الخير الجنس البشري بأجمعه,وعندما وجد التاريخ المذابح المقامة في الحرب العالمية الثانية ندم وعرف أنه كان مخطئا في كثير مما قرر وسجل,فأقدم علي الانتحار إلا أن معاونه أوضح له أن الأمل يطغي بعد إعلان ميثاق الأطلنطي العظيم وتصريح أمريكا بضمان الحريات الأربع في العالم.وهذا بالطبع خير للإنسانية ولكن التاريخ أعرب له أن هذا خداع وإذا حدث فإنه سيلقي بنفسه ليمت لعل البشر يتعظون,وهنا سأله معاونه قائلا:ومن يكتب قصة البشرية؟فتنهد التاريخ مجيبا:إن بشر لهم مثل هذه العقلية لا يستحقون أن يكون لهم تاريخ.
خواطر ذرية
وفي مقالة خواطر ذريةيؤمن الكاتب باتحاد كل عناصر هذه الأرض لإسعاد الإنسان إذا أراد أو لفنانه إذا شاء,وأن الحرب والكراهية والتعصب جميعها من الأوضاع المدمرة التي ورثناها عن أجدادنا المتوحشين.وأن قد آن للبشر أن يستبدلوا بها أوضاعا مثمرة كالسلام والتعاون والتسامح كادمنا جميعا رفاق سفر في سيار واحد,موضحا أن الحرب ليست داء في حد ذاتها بل هي من أعراض مرض غير ظاهر وهو الجهل الاجتماعيمشيرا إلي أن الطبيعة ألقت بسر من أعمق أسرارها وهو تفجير الذرة,فإن ظل الناس علي غبائهم ورغبتهم في استعمار الأمم واستبعاد الأفراد فإن هذه القوة الجديدة ستكون سلاحا جديدا لانتحار العالم,وعندئذ يبرهن الإنسان أنه أحمق مخلوقات الله جميعا,أما إذا اتجه البشر في استعمالهم لهذه القوة الجبارة إلي زيادة الإنتاج وتحقيق التعاون والمساواة,فإنهم سوف يحققون للبشرية حتما سعادة ورخاء وسلما مستديما,فمصير العالم بعد اكتشاف القنابل الذرية لن يتقرر بوجودها ولكن بالطريقة التي يستخدمها الناس.
يا دنيا يا غرامي
يا دنيا يا غراميهنا نقرأ عن رؤية الكاتب في أن كل إنسان فيلسوف إلي حد ما,لأنه لا يوجد إنسان عاش حياته دون أن يشعر ولو لمرة واحدة أنه يحيا في ظل علامة استفهام هائلة,فكثيرا ما يسأل نفسه عن الروح والحياة والدنيا,وكيف بدأت هذه الأسرار؟وإلي أين المنتهي؟!ثم لا يلبث بعد أن أنهكه التفكير إلي اللجوء إلي سند قوي من التعاليم الدينية أو النظريات العلمية أو إليهما معا,فتطمئن نفسه ويهدأ باله,موضحا أن الحياة تبدو ثقيلة علي بعض الناس في أوقات القسوة والحرمان ثم تعود محببة لديهم عندما تصفو فتحقق لهم شيئا من أسباب السعادة,فيظل الناس فيها حياري من أمرهم متذكرين من قال:إن الدنيا لا تعدو أن تكون عدوا في ثياب صديق,مؤكدا علي أن العالم الآن ملئ بالآلام والشرور والقسوة,ونحن لا نملك أن نمنع هذه الآلام,ولا أن نخفف من هذه القسوة ولكن في مقدورنا أن نروض أنفسنا علي النظر إليها نظرة فلسفية,لأن المصيبة الواحدة قد تصيب شخصين فتصعق أحدهما,ولاتترك في حياة المتفلسف غير آثار محتملة,فهكذا تبدو الحياة لا كما هي ولكن من خلال النظرة التي نرمقها بها.
الأمية السياسية
يتحدث الكاتب أيضا عن السياسية التي تعد الأداة الأولي والأخيرة التي تؤثر في حياة الناس,فهي التي تحدد مقدار ما ينعمون به من هناء أو ما يقاسونه من شقاء,لذلك فهم يتحدثون عنها لأهوائهم الشخصية ولكن أغلب الظن أن هؤلاء الناس ينظرون إلي الأمور نظرة بلهاء ناشئة عن تواكل واستكانة وجهل مطبق بالحياة,والواقع أن تعريف السياسة تعريفا مستنيرا ليس بالأمر الهين في وسط عاش دهرا لا يعرف عن السياسة سوي أنها جدل عقيم,وخطب رنانة وجهود تبذل للوصول إلي مقاعد الحكم,وهذه الأساليب لا صلة لها بالسياسة,أما الأبجدية السياسية فتنص علي أنه لا يمكن تصور الحكم إلا في إطار من الزمن الذي يقوم فيه هذا الحكم,ومنطق الزمن الآن يحتم العمل علي إسعاد الأفراد في نطاق الدولة وبوساطتها حتي تنشأ دولة قوية يدعمها أفراد أقوياء,لذلك من واجب الحكومات أن تهدف إلي أن يعمل كل فرد عملا منتجا ليأكل هو وعائلته من أجره,وأن تمحو عن رعاياها وصمة الجهل,وأن تعالجهم عند المرض,وأن ترتب لهم معاشا عندما يعجزون,وأن تكفل لعائلاتهم معاشا بعد وفاتهم,فكل أمة في هذا العصر لا تجعل هذه الأغراض الأولية هدفا سياسا لها هي أمة تعيش في الماضي.
علي هامش الإنسان
ثم نجد كيف تنتاب الكاتب أزمة فكرية يشعر أثناءها أن إعجابه بالجنس البشري يتضاءل حتي يكاد يتلاشي…وذلك لأنه يعلم أن الإنسان في جميع أنحاء الأرض قد خصص كل مواهبه وكافة جهوده وما كشفه من أسرار الطبيعة لفتك إخوانه في الإنسانية,واكتشف الكاتب أن الإنسان هو المخلوق الوحيد بين سائر المخلوقات الذي يستحل لنفسه قتل أفراد من جنسه فالأسد لا يقتل الأسد,وقد تموت الذئاب جوعا ولا تفترس واحدا منها لتتغذي به,ولكننا نسمع دائما بالحروب التي يقتل فيها الرجل آلافا من الرجال ولا نري في ذلك ما يثير العجب هذا هو الإنسان الذي بني المدنية وجعلها نواه لمجاعة روحية إنسانية منقطعة النظير في الهول والشقاء والغرور,ولعل هذا الغرور في طبيعة الإنسان هو ما جعل عقله يزين له أنه سيد الأرض بلا منازع فما المانع إذن من أن يفسد فيها ويسفك الدماء؟!والإنسان هو سيد الأرض حقا ولكن سيادته هذه قصيرة المدي لا تتعدي مئات الألوف من السنين في عمر العالم الذي يقاس بآلاف الملايين من الأعوام,وتعبيرا عن ضآلة الإنسان في هذا الكون يقول الدكتورفان لون:إن سكان الأرض من الجنس البشري يمكن وضعهم جميعا في صندوق حجمه نصف ميل مكعب…فإذا وضع هذا الصندوق علي قمم جبالالأريزوناثم سقط واديالكلورادوفإن سقوطه يحدث صوتا مزعجا يعقبه سكون ونسيان…وتستمر الربح في الهبوب…والطيور في التغريد…ولن تتأخر الشمس عن الأشراق أو المغيب..وبذلك ينتهي الإنسان..وغرور الإنسان..وتبقي الأرض…ولا يتغير العالم.
شهر زاد في مجلس الأمن
ونختم عرضنا هذا بمقال شهر زاد في مجلس الأمنحيث يأخذنا الكاتب إلي عالم ألف ليلة وليلة الساحر الذي اعتدنا أن نسمع حكاياته في شهر رمضان الكريم فيحكي لنا عن خادمة شهر زاد التي جاءت لإيقاظها وعلي قسمات وجهها خوف وفزع بسبب رغبة الملك شهريار بأن تذهب إليه مسرعة في هذا الوقت المبكر,ولكن شهر زاد لم تهاب ذلك وقامت إلي خزائن ملابسها لتتجمل وهي تضحك وتنشد قائلة:قل لمن يحمل هما…أن هما لا يدوم…مثلما تفني المسرات…كذا تفني الهموم وذهبت شهر زاد في أبهي زينتها إلي شهريار الذي ذهب عنه غضبه عندما وقع نظره عليها قائلا:أردت أن أراك لتسري عن نفسي حزنها,فقد خرجت أتفقد أمور الرعية فراعني خلاف بين رؤساء القبائل…وانقسام بين العشائر بسبب الغرور والأنانية التي تمكنت من النفوس…كل هذا بينما تتطلع إلينا من وراء الحدود جحافل البرابرة..منتظرة فرصة مناسبة لتنشب فيما أظافرها…فبالله يا شهر زاد خففي كربي…وروحي عن نفسي بحديثك العذب الطليفنظرت إليه شهر زاد بابتسامة قائلة:أطال الله بقاءك..فبحكمتك سوف يعود إلي القبائل والعشائر اتحادها..ويبقي للبلاد مجدها.