عملت القيادة الصينية جاهدة خلال العقدين الماضيين علي إعطاء انطباع جميل للآخر عن بلادها, آملة من وراء ذلك محو كل ما تعلق بالأذهان من صور مظلمة ومخيفة عن حقبة المعلم ##ماو تسي تونج## التي اتسمت بالفوضي والعنف والرعونة وإهدار الكرامة الآدمية وتصدير الأيديولوجيا إلي الجوار وما وراء البحار. وفي سبيل ذلك اعتنقت بجينج فكرة أن تحقيق هذا الهدف يتساوي في أهميته مع بناء مجتمع داخلي متناغم, وقوة اقتصادية متينة عمادها التصنيع والتصدير, علاوة علي قوة عسكرية مهابة. ولوضع الفكرة موضع التنفيذ, جندت الدولة وحزبها الشيوعي الحاكم وجيشها الأحمر كل ما تحت يدها من مقدرات إعلامية ومادية متنامية لمنع حدوث ما يشوه صورة الصين الجديدة, خصوصا بعدما نجحت الأخيرة في تجاوز اليابان وألمانيا وصارت ثاني أكبر اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا, صار أكثر ما يزعج بجينج ويقلق راحة زعمائها ويسبب لهم الحساسية هو تبني الإعلام الغربي أو إعلام الدول الآسيوية المنافسة لقضية داخلية صينية عبر التركيز علي تفاصيلها واستضافة رموزها. وتفاديا لوقوع مثل هذا المحظور, دأبت الدبلوماسية الصينية علي التحرك السريع, بل لوحظ قيامها بتهديد الجهات المعنية من عواقب إزعاج بجينج, وتداعياته السلبية علي الروابط البينية. وقد رأينا ذلك في مناسبات عديدة ابتداء من غضب بجينج علي نيودلهي لاستضافتها الزعيم الروحي للتيبيت ##الدلاي لاما## فوق أراضيها, وانتهاء بغضبها علي إدارة الرئيس الإمريكي السابق ##جورج دبليو بوش## لإشادته بزعيمة متمردي ##الإيجور## المسلمين ##ربيعة قدير## أثناء مؤتمر حول الديمقراطية والأمن في العاصمة التشيكية في يونيو 2007, ووصفه لها بـأنها ##امرأة موهوبة ومصدر فخر لوطنها##. بل رأيناه في ديسمبر 2008 حينما التقي الرئيس الفرنسي ##نيكولا ساركوزي## علنا بزعيم التيبيت الروحي في بولندا, ثم رأيناه مجددا في فبراير من العام الجاري حينما استقبل الرئيس الأمريكي ##باراك أوباما## الدلاي لاما في البيت الأبيض. ففي كلتا الحالتين أدار الرئيسان الإمريكي والفرنسي ظهريهما لتحذيرات الصين, ولم يكترثا بتهديداتها الناعمة.
وفي سياق المخاوف نفسها, بادرت بجينج قبل عدة أسابيع إلي إرسال نائب وزير خارجيتها ##فو جينج## علي عجل إلي العاصمة النرويجية لنقل رسالة إلي مدير لجنة جائزة نوبل ##جير لونديستاد## تحذره فيها من مغبة منح جائزة نوبل للسلام لعام 2010 للناشط الصيني المعتقل ##ليو شياو بو##. وقد أكدت الخارجية الصينية لاحقا أنها مارست بالفعل ضغوطا قوية علي أوسلو للتدخل من أجل رفع اسم ##شياو بو## من قائمة ضمت 237 مرشحا لنيل الجائزة المذكورة التي تعتبر الأهم ضمن جوائز نوبل, بل أكدت أيضا أنها حذرت النرويجيين من التداعيات السلبية لمثل هذه الخطوة علي علاقات الدولتين. غير أن أوسلو كررت ما فعلتاه واشنطون وباريس, فلم تعط بكين آذانا صاغية, وتجاهلت تحذيراتها كليا, وذلك حينما اختارت ##شياو بو## ليكون الفائز رقم 91 بجائزة نوبل للسلام. وهذا الأمر لئن تسبب في صدمة في بجينج, فإنه أيضا حمل لها رسالة أولي مفادها أن دول الغرب ليست كأقطار أفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية, بمعني أنها ليست كالأخيرة لجهة الحاجة الماسة لمساعدات تقنية وقروض إنمائية واستثمارات رأسمالية تأتيها من الصين كي ترضخ وتنفذ كل ما تطلبه منها, ورسالة ثانية مفادها أن الصين – رغم صعودها المذهل – لم تبلغ بعد قوة بريطانيا العظمي في الأربعينات من القرن المنصرم, حينما تدخلت خمس مرات لمنع ذهاب جائزة نوبل للسلام للزعيم الهندي الكبير ##المهاتما غاندي##, فكان لها ذلك علي الرغم من وجود اسم غاندي علي رأس قائمة المرشحين بسبب دوره الكبير في تجسيد مبدأ ##اللاعنف##.
والحقيقة أن الحدث فاجأ القيادة الصينية, لأنها كانت حتي اللحظة الأخيرة تتوقع من لجنة جائزة نوبل أن تتوخي الحذر, فلا تقدم علي عمل يقلل من مصداقيتها, خصوصا بعدما تعرضت تلك المصداقية لهزة في العام الماضي حينما منحت جائزتها للسلام لرئيس منتخب للتو, لم ينجز في حياته أي عمل حقيقي في مجال السلام, ونعني بهذه الشخصية الرئيس ##باراك أوباما##. غير أن ما لم يدركه الصينيون أو تغافلوا عنه هو أن لجنة جائزة نوبل دأبت في السنوات الأخيرة علي التزام نهج جديد تمثل في منح جائزتها للسلام إلي شخصيات سياسية ذات تاريخ حافل داخل بلدانها في مقاومة الديكتاتورية مثل زعيمة المعارضة البورمية ##أونج سان سو كي##, أو شخصيات حقوقية ذات باع طويل في الدفاع عن المضطهدين والمحرومين مثل الناشطة الإيرانية ##شيرين عبادي##, أو شخصيات ذات اهتمامات تتعلق بالمحافظة علي البيئة مثل الكينية ##وانغاري ماتاي##.
وبما أن ##المحظور## قد وقع, فإن بجينج لم تجد أمامها سوي استدعاء السفير النرويجي هناك إلي وزارة الخارجية للشكوي (قيل إن السفير أوضح أنه ليس لبلاده سلطة إجبار لجنة نوبل علي اتخاذ قرارات معينة), ثم تجنيد أدواتها الإعلامية لشن حملة ضد لجنة نوبل ومن يديرها, مرددة ما قيل مرارا من أن العوامل السياسية تلعب دورا كبيرا في توجيه جوائزها, وأنها صارت مجرد جهاز يأتمر بأوامر الغرب المعادي لصعود الصين. بل إن الإعلام الصيني المملوك للدولة لم يدخر وسعا من أجل إثبات أن منح نوبل للسلام للدكتور ##ليو شياو بو## يعد مخالفة صريحة لما أوصي به ##آلفريد نوبل## قبل وفاته, بمعني أن الفائز لا يستحق الجائزة لأنه لم يكن يوما من دعاة السلام والصداقة بين الشعوب أو دعاة نبذ العنف والأعمال المسلحة##.
علي أن حجج الصين واعتراضاتها, مهما كان شكلها ونوعها, لا يلغي حقيقة استحقاق الدكتور ##شياو بو## بجدارة للجائزة الممنوحة له بسبب عوامل كثيرة. فهذا الأكاديمي المولود في عام 1955 والقادم من بيئة فقيرة كادحة, لكن المولود لأسرة من المثقفين والنجباء, ذاع صيته منذ عام 1989 (حينما شارك في أحداث ساحة تيان إن مين الدموية) كواحد من أكثر النشطاء الصينيين حركة وعلما واطلاعا وشجاعة وتحملا لويلات المعتقلات الصينية الرهيبة. فكان يـودع السجن ويخرج منه ليـودع فيه مجددا (بلغ عدد السنوات التي قضاها في السجون نحو عشرين عاما, علما بأن آخر حكم ضده بالسجن لمدة 11 عاما صدر في العام الماضي وانتقدته شخصيات أممية وقادة دول ورموز فكرية معروفة في الشرق والغرب) بنفس التهم التي كانت تتمحور حول دفاعه الشرس عن حقوق الإنسان الصيني وحريته في التعبير, ومطالبته بصين أكثر انفتاحا في المجال السياسي, وانتقادته اللاذعة لهيمنة الحزب الواحد علي مقاليد السلطة لأكثر من ستة عقود متواصلة, واشتراكه مع آخرين في إطلاق العرائض المطالبة بالحرية علي شاكلة ما فعله نشطاء تشيكوسلفاكيا زمن الحكم الشيوعي.