شهد عام 1632 ولادة فيلسوفين من كبار فلاسفة العصر. فأما الأول فهو الفيلسوف الإنجليزي جون لوك, والثاني الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا.
كانت ولادة الفيلسوف والمفكر السياسي جون لوك في رنجتون بالقرب من برستول. تعلم لوك في طفولته اللغة اليونانية واللاتينية ودرس فلسفة أرسطو في مدرسة وستمنستر. أثرت فيه حادثة إعدام شارل الأول وتركت أثرا في فلسفته. كان والده محاميا ثم موظفا كبيرا في خدمة البرلمان, شرح لإبنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية. ولكنه أفلس وخسر كل شئ بسبب الحرب الأهلية التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في إنجلترا.
درس جون لوك في أكسفورد الأرسطوطاليسية والهندسة والبلاغة واليونانية والمنطق وعلم الأخلاق. ثم أصبح محاميا في مدينة أكسفورد. وجدير بالذكر كانت هناك في ذلك الوقت منافسة كبيرة بين أكسفورد وكمبردج. كان يسيطر علي أكسفورد أتباع أرسطو, بينما أتباع أفلاطون كانوا يسيطرون علي كمبردج, مع العلم أن الصراع بين الأرسطوطاليسية والأفلاطونية اخترق كل تاريخ الفلسفة. لكن البروفيسور روجيه وولهاوس, أحد كبار المختصين بالفكر الحديث عموما وفلسفة جون لوك علي وجه الخصوص, يري أن الفلسفة الحديثة أي فلسفة فرانسيس بيكون وتوماس هوبز ورينيه ديكارت كانت قد نقدت بشدة فلسفة أرسطو وأفلاطون وفتحت مجالا جديدا كليا للمعرفة. وبالتالي فقد استفاد من ذلك كله جون لوك وبني عليه نظرياته الفلسفية والسياسية.
وقع جون لوك في الغرام إلا أنه لم يتزوج قط شأنه في ذلك شأن كثير من فلاسفة الغرب, ولكن عندما نصحوه بالعمل في إحدي وظائف الكنيسة تردد وقال: إذا رقيت إلي مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه فإن الهبوط منه لن يكون إلا سقوطا مروعا يسمع له دوي شديد.
درس لوك الطب وقرأ ديكارت وولع بالفلسفة وأحس بسحرها. ثم عمل كطبيب خاص لأنطوني آشيلي كوبر والذي أصبح طبيب أرل شافتسبري الأول وعضو الوزارة أيام شارل الثاني. حافظ جون لوك في نفس الوقت علي منصبه كباحث ومدرس ومحاضر في أكسفورد ولكن مع ذلك وجد نفسه غارقا في خضم السياسة الإنجليزية. ويروي ول ديورانت أن الطبيب لوك أنقذ حياة شافتسبري حيث أجري له عملية بارعة لاستئصال ورم خبيث وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري, وسهر علي زوجة ابنه أثناء الوضع, وأشرف علي تعليم حفيده, خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد, أرل شافتسبري الثالث أن:
”مستر لوك حظي بتقدير كبير لدي جدي, حتي وأنه وقد عرف بالتجربة أنه عظيم في الطب, رأي أن هذا جانب صغير من جوانب عظمته, وشجعه علي الاتجاه بأفكاره إلي منحي آخر, ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أو من قبيل العطف أو الرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد, وكل ما يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحا كبيرا جدا يجدي إلي أن يتخذ منه صديقا يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع.”
أحس جون لوك بالخطر لما أثارته قصة القبض علي صاحبه شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلي هولندا من شبهات الملكيين حول أصدقائه. فلجأ لوك كذلك إلي هولندا. واختبأ هناك واتخذ لنفسه اسما آخر, وبعد سنة أرسل له الملك جيمس الثاني عرضا بالعفو ولكنه آثر البقاء في هولندا.
عاش لوك في أمستردام وروتردام وأوترخت ست سنوات ونشأت بينه وبين بعض العلماء الهولنديين علاقة صداقة, مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ وكذلك مع اللاجئين الإنجليز في هولندا ولاقي كل تشجيع وترحيب لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وحسب ديورانت كتب لوك هناك كتب ”بحث في العقل الإنساني” والمسودات الأولي لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني. وعندما حل وليم الثالث محل الملك جيمس الثاني, أبحر لوك إلي إنجلترا وقبل مغادرة هولندا كتب إلي لمبورخ رسالة تفيض بأحر العواطف:
إني إذا أرحل عنكم, أكاد أشعر أني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي. فإن كل شئ يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة – كل ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوي من رابطة الدم – وجدته بينكم موفورا. إني أترك ورائي أصدقاء لا سبيل إلي نسيانهم أبدا. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء, لم أشعر وأنا بينهم بأي حنين أو رغبة, حيث كنت بعيدا عن ارتباطاتي الخاصة, وأعاني أشياء كثيرة, أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم, فإني حين أفكر في علمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك, يتضح لي أني وجدت في صداقتك أنت وحدك ما يجعلني أبتهج دوما لأني أرغمت علي قضاء هذا العديد من السنين في رحابك.
عندما عاد لوك من هولندا كان يناهز السادسة والخمسين من العمر. يقول المؤرخ والفيلسوف ديورانت في كتابه الرائع ”قصة الحضارة: ”كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوي بعض مقالات قليلة الشأن, وخلاصة بالفرنسية ”للمقال” في المكتبة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك ولم يكن يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة, هي ”سنة العجائب”, حتي دفع إلي المطبعة ثلاثة كتب سمت به إلي مصاف الشخصيات البارزة الكبري في عالم الفكر في أوربا. وظهرت ”رسالة عن التسامح” في مارس 1689, في هولندا, ثم ترجمت إلي الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 ”رسالة ثانية عن التسامح”. وفي فبراير 1690 أصدر مقاليه عن ”الحكم المدني”, وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديموقراطية في إنجلترا وأمريكا, وبعد شهر واحد أخرج كتابه ”بحث في العقل الإنساني”, وهو أعظم المؤلفات أثرا في علم النفس الحديث. وعلي الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقالي ”الحكم المدني” قبله, لأنه كان تواقا إلي تزويد الثورة الجليلة بأساس فلسفي.
لقد عاش جون لوك اثنين وسبعين عاما ملأ فيها الدنيا وشغل الناس بعلمه وفلسفته ونظرياته السياسية.وظل تأثيره علي الفكر السياسي مسيطرا حتي ظهور كارل ماركس. وكان تأثيره كبيرا في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني, ويعتبر من مؤسسي النظام الليبرالي الديموقراطي الحديث.
تأثر بآراء لوك الفيلسوف فولتير وكذلك المفكر مونتسكيو ولاقت أفكاره صدي عند الفيلسوف جان جاك روسو وغيره وتجلت معانيها في ”إعلان حقوق الإنسان”. وكذلك في ”إعلان الاستقلال” الأمريكي و”وثيقة الحقوق” في التنقيحات العشرة الأولي للدستور الأمريكي. ويري ديورانت أن نظرية لوك في فصل السلطات أخذ بها مونتسكيو ووسعها لتشمل السلطة القضائية وأصبحت عنصرا أساسيا في شكل الحكومة الأمريكية. لقد بلور لوك النظرية الليبرالية لدولة الحق والقانون. ودافع فيها عن حق الملكية وعن الحرية الفردية.
ويمكن القول بإن أفكاره كانت وراء اندلاع الثورة الإنجليزية التي أسست ولأول مرة في التاريخ دولة الحق والقانون. كان جون لوك يقول إن الحرية لا تعني الإباحية وإنما المسئولية. فالله زودنا بالعقل والحرية لكي نستخدمها بشكل صحيح لا بشكل خاطئ. والقانون الطبيعي الذي يحكم البشر قائم علي العقل, وهو ذو أصل إلهي. وحسب المؤرخ والفيلسوف الألماني شبنجلر: ”إن الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي ونبعت كل عقلانية القارة من لوك”.
كان جون لوك يري أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة وأن الاضطهاد يصنع المنافقين, أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق, ولحظ كيف يعمد المسيحي إلي الاضطهاد والتعذيب والإساءة وقد أخذ علي نفسه عهدا بالبر والإحسان ومحبة الناس؟
واصل لوك حملته من أجل التسامح حتي وافته المنية عام 1704 بينما كان جالسا يصغي إلي ليدي ماشام تتلو المزامير.
يعتبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن مائة دماغ في التاريخ, تزيد وتنقص, كانت خلف أسرار النهضة في أوربا, ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوربا قرونا أخري في ظل محاكم التفتيش حتي يرث الله الأرض ومن عليها.
ولهذا لا يمكننا فهم النظام السياسي الحديث في أوربا إن لم ندرس فلسفة الفيلسوف الليبرالي جون لوك. فقد كان الرجل الدماغ المفكر لهذا النظام الديمقراطي الذي زعزع العروش وأنظمة الطغيان والاستبداد وأحد كبار مؤسسي فلسفة التسامح في أوربا ومن الداعين إلي محاربة المتشددين المتعصبين ودعاة الطائفية.
[email protected]