لعل تصدع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولي, وتقسيم المشرق العربي وفرض الانتداب والحماية الغربية عليه, ومن ثم إلغاء تركيا الكمالية لمؤسسة الخلافة في13 مارس عام1924, كان وراء انكماش الإصلاحية الإسلامية بخطابها المنفتح علي الثقافة الأوروبية الحديثة, وعلي مفاهيم الديموقراطية والدولة الدستورية, وبروز أطروحات الإسلاميين الجدد.
وخلف انهيار وتصدع الخلافة فراغا هائلا علي مستوي المرجعيات العليا, تأزم معه الفكر الإصلاحي الإسلامي, وولد سلسلة من المراجعات الفكرية, انبثقت عنها الحركة الإسلامية المعاصرة برهاناتها علي بناء عالمية إسلامية ثانية, تستعيد بها النسق الشرعي للخلافة الإسلامية.
عبر عن هذا التحول, علي الصعيد النظري, رشيد رضا الذي جسده بكتابه (الخلافة العظمي) بانتقاله إلي موضوعات السياسة الشرعية, كما عبر عنه, علي مستوي الحركة الاجتماعية, جماعة الإخوان المسلمين في مصر, التي تأسست في مارس 1928م وهي الجماعة الأم لمعظم التيارات الإسلامية والحركية الإسلامية, فكانت دعوتها إلي الدولة الإسلامية, أو تطبيق الشريعة, بمثابة رجع بعيد لقيام الجمهورية العلمانية الكمالية, ولبناء الدولة الوطنية/ القومية. فأنفق الفكر الإسلامي الكثير من طاقاته في محاولة استعادة صورة الخلافة الضائعة بصيغتها القديمة, لهذا أتت الردود عنيفة من الإسلاميين علي أطروحات (علي عبد الرازق) التي اعتبر فيها الخلافة مؤسسة وضعية يعود تقرير أمرها إلي الأمة, بينما انتهي الإسلاميون الجدد, في توجهاتهم الجديدة, إلي وضع (الشريعة) في مقدمة أطروحاتهم ومطالبهم, علي حساب مرجعية الأمة, بل في مواجهة الأمة, وفي الوقت نفسه أعلوا من شأن (طليعة) الأمة (الفتية الذين آمنوا بربهم), أي النخبة المتمثلة بجماعة الإخوان المسلمين, أو جماعة التكفير والهجرة في ما بعد, أو أمثالهم, ووضعوا هؤلاء في مرتبة المؤتمنين علي الشريعة والممثلين الحقيقيين للإسلام ولأمة المسلمين, مثلهم في ذلك مثل الأحزاب الشيوعية في نظرتها إلي علاقتها التمثيلية مع الطبقة العاملة, أو مثل الأحزاب القومية (العقائدية) في نظرتها إلي علاقتها بالأمة.
فأمام خشية الإسلاميين, في الثلاثينات والأربعينيات من القرن الماضي, علي الجمهور من التغريب, وعلي الإسلام من هذا الجمهور, نأوا بالإسلام عن (الأمة) حينما لم يعودوا يأتمنون الأمة/ الجمهور علي الإسلام, وتمسكوا بالشريعة كملاذ له ولهم, حينها تحولت ##الشريعة## في وعي الإسلاميين إلي ما يشبه أيديولوجيا النخبة, التي لم تعد تقتصر مهمتها علي إعادة الشريعة إلي السلطة, بل إلي إعادة الإسلام إلي الأمة أيضا, وإلي انتشالها من (الجاهلية)!
لذا فإن حركة الإخوان المسلمين جاءت كجواب خاطئ علي أزمة حقيقية يعاني منها وعي النخبة الإسلامية, هذا الجواب الخاطئ أبعدها عن هاجس الديموقراطية. غير أن حركة الإخوان المسلمين غدت أهم الحركات الإسلامية وأكثرها تأثيرا في انتشار الفكر الإحيائي علي الصعيد العربي والإسلامي, ركزت في بداياتها علي الطابع الدعوي والثقافي العام, وعلي المسائل الشعائرية والرمزية وقضايا الهوية, غير ان هذا لم يمنع البنا من صياغة مفاهيم سياسية عامة تنبئ بالراديكالية السياسية, فعلي الرغم من أنه لم يعارض دستور1923, الليبرالي في مصر, فقد شدد علي ##أن الإسلام مصحف وسيف, وبشر بالدولة الإسلامية, ووضع في مقدمة اهتماماته, إقامة ##الحكومة الإسلامية الحقيقية##, لتكون نواة أو نقطة انطلاق للوصول بالتدريج وعبر مراحل تمهيدية إلي دولة الخلافة الجامعة. فصار قيام (الدولة الإسلامية) التي تطبق الشريعة, لدي البنا, واجبا شرعيا وليس شأنا تدبيريا فرعيا اجتهاديا كما كان عليه الحال عند الفقه السني علي مر تاريخه, وعند الفقه الشيعي الإخباري في زمن الغيبة. وبذلك كان البنا أول من اعتبر مسألة السلطة, في المجال السني, مسألة عقدية لا اجتهادية وأنها من الأصول لا من الفروع.
والحال, إننا إذا عاينا المفاهيم الجديدة التي أضافها البنا و(الإخوان) نجد, أن ما يقبع خلف تلك المفاهيم, هي حقيقة أن الإسلاميين باتوا يتصورون أن الإسلام في خطر, ليس من الثقافة الغربية فقط بل من الحكام وأيضا من الجمهور/الأمة الذي أصبح ميالا للقوميين أو اليساريين, ولم يعد يؤتمن علي الإسلام. لذا أرادت أن تفرض حمايتها له ولو بالقوة, فاتجهت استراتيجيتهم إلي استلام السلطة وتطبيق الشريعة وهذا معني قول حسن البنا: ##الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف##.
وعلي الرغم مما أظهره من حرص علي التكيف مع الفكرة الدستورية التمثيلية, والانتخابات البرلمانية, فقد أدخلنا البنا بأطروحاته تلك في مجال فكري مبتدع لا يشبه الإسلام في قرونه الماضية, يقوم علي الدعوة ضمنيا إلي: استيلاء نخبة إسلامية (الإخوان المسلمين) علي السلطة لتفعيل الإسلام في المجتمع وإعادته إلي السلطة ولو بالقوة, وهو ما يغاير الإسلام المتعارف عليه. فبينما كان إسلام المذاهب الفقهية المعروفة, يري أن الجماعة (الإجماع), هي أساس المشروعية, ومناط المرجعية, وحاضنه للنص والشريعة وشارح لهما, وبالتالي تملك سلطة المرجعية, نقل الإسلاميون الجدد, مع البنا, العصمة إلي (الشريعة), والناس /الجماعة بنظرهم قد هجروا الإسلام , فقلبوا في مواقفهم تلك أطروحات الفقه التقليدي رأسا علي عقب, ففي حين اعتبر أهل السنة الشأن السياسي شأنا تدبيريا فرعيا واجتهاديا, وليس شأنا عقائديا, اعتبره الإسلاميون جزءا من الدين, لا لأن الحاكم مقدس, بل لأنه مكلف بمهمة مقدسة تتعلق بتطبيق شرع الله, وتمسكوا بمرجعية الشريعة في الشأن السياسي علي حساب ولاية الأمة علي نفسها. كما أنشأ البنا نفسه التنظيم السري (التنظيم الخاص), الذي قام بدوره بالعديد من الاغتيالات, ودعا إلي حل الأحزاب لدمجها في هيئة دينية واحدة , فمهد لسلطة الحزب الواحد.
وهكذا مهد الإسلاميون في مرحلة البنا إلي بزوغ الحركة الإسلامية التكفيرية, التي توجتها أطروحات سيد قطب عن الدولة الدينية الثيوقراطية, دولة الحاكمية المعصومة, لتدشن تلك الأطروحات اللحظة الثانية في تجربة الإسلام السياسي , التي استبيحت فيها الأرواح والنفوس والزرع والضرع.
عن المستقبل اللبنانية