إذ فقدنا حناننا علي أبنائنا فقدناهم… إذا فقدنا الإنصات واتساع الصدر فقدناهم… وإذا فقدناهم فقدنا أنفسنا معهم… فهم مشروع الحياة الذي من أجله نشقي ونكد ونحيا… مشروع الخسارة فيه هي خسارة العمر بأكمله لأنه مشروع العمر كله حتي وإن جحدوا… حتي وإن ضلوا… بالحنان يمكننا استعادتهم… منذ عام ونصف العام يتردد علي شاب عمره 18 سنة… تعلو قسماته معالم البؤس والفقر والتشرد… اللون الأزرق علامة مميزة علي وجهه… في الهالات حول عينيه… في لون شفتيه… في انعكاس الضوء فوق جبينه… يبدو أن أرصفة الشوارع نالت منه قدرا لا يستهان به… جاءني طالبا المعونة, لم أتردد لحظة في مساعدته ولم أفكرا أبدا كيف وصل لتلك الحال إلا بعد بضعة أشهر وظل باب افتح قلبك يساعده شهريا… كان علي اتصال دائم بي فكلما حلت به كارثة كان يلجأ إلي… فتتحرك مشاعري وألوم نفسي إذا ما تخليت عنه… كنت أري فيه ابنا صغيرا يحتاج الرعاية وشابا جنت عليه عوامل الفقر والجهل وأصدقاء السوء وعلينا أن نمد إليه الأيادي. مرت الأيام وذات مرة أتاني سألته عن قصته وسبب ما وصل إليه حاله, قال: أبويا كان بيعاملني بقسوة فخرجت من التعليم في رابعة ابتدائي وسبت البيت وماقدرتش أرجع, احترمت اقتضابه في الكلام ولم أضغط عليه خشية أن يعزف عن اللجوء لي وأنا أعلم يقينا أنه في احتياج شديد كما أني أعلم يقينا أنه لا يبوح بالصدق وإنما يخفي الكثير من الحقائق خلف غموض قصته… ذات يوم اتصل بي كان صوته مرتبكا جدا… تقع الحروف من بين كلماته… في تعثر شديد قال لي: أنا مش لاقي آكل سبت شغلي ومش معايا أي فلوس. كان الحظ سيئا جدا إذ أنني كنت خارج القاهرة وبعد ساعتين من اتصاله تمكنت من التوصل لمن يمكنهم مساعدته وتوجه إلي الجريدة ليحصل علي المساعدة المطلوبة لحين عودتي.
عدت بعد ثلاثة أيام متصورة أنه سوف يأتيني سريعا… لكنه لم يأت وطال انتظاري أسابيع ولم أجد وسيلة اتصال تدلني علي مكانه أو حالته لأنه يغير أرقام تليفوناته بشكل متكرر وهو ما لفت انتباهي… بعد فترة اتصل بي بذات الارتباك قائلا: أنا إيدي اتمدت علي تليفون محمول في القهوة إللي كنت قاعد عليها وصاحبه مسكني وصمم يوديني القسم فقلت له إنك خالتي أرجوكي ما تتخليش عني هو عاوز 300 جنيه علشان يسيبني أرجوكي تقبلي أنه ييجي معايا صمتت تماما واستمعت لكل ما قاله ووافقت رغم ما تسلل إلي قلبي من إحساس بالكذب الشديد.
حضر الشاب سريعا وبصحبته رجل في الأربعين من عمره روي لي قصة لا يصدقها طفل… عن سرقة محمول وكيف ضبط الشاب وأنه لن يتنازل عن حبسه إلا إذا حصل علي 300 جنيه… فأجبته في الحال احبسه أنا هاعرف أطلعه ما تقلقش ثم طلبت منه البطاقة الشخصية فبدأ الرجل في التوتر… طمأنته أنه إجراء روتيني لصرف المبلغ فيما بعد… ظل الرجل ذو الأربعين من عمره يعنف الشاب أمام الجميع ويقول له عبارات لاذعة حول الولاء لمن يساعدوه وعدم السير مع أصدقاء السوء… نظرت إليه نظرة فاحصة ثم ثبت بصري علي الشاب فبكي بكاء حارا حتي أنه كان يبتلع دموعه… كنت علي يقين أنها دموع الندم علي عملية النصب التي تجري لأجل الحصول علي 300 جنيه ولصالح طرف لا أعلم مدي علاقته به لكنني وجدت من الحكمة إنهاء الموقف وإقصاء هذا الرجل عن حياة الشاب نهائيا حتي وإن كان الثمن نصب في 300 جنيه.
بكي الولد وقال لي… هاتدفعيهم؟ فأجبته أيوه ثم نظرت للرجل وسلمته المبلع قائلة: فلوس المحمول في جيبك ياريت تمشي ومش عايزين نشوفك تاني هنا.كان الرجل متوترا جدا مد يديه مرة ثم غلها مرة أخري وقال: أنا مكسوف آخد الفلوس دي بس مش عارف أعمل إيه ثم رحل… وما إن رحل حتي انخرط الولد في نوبة بكاء شديدة ربت علي كتفيه وسألته: فطرت؟ فابتسم مجيبا بالنفي… وتناولنا الإفطار سويا بدأت البسمة تعلو وجهه كان فرحا جدا… طلب توفير مكان للمبيت فحققنا مطلبه… بعد ساعتين لفت نظري استمراره في التواجد فسألته عن رغبته في العمل مرة أخري بعد أن فشل في المهن فأبدي استعدادا طيبا… شجعني التحول الذي بدا عليه أن أسأله: ما الحكاية؟.
فتح قلبه للمرة الأولي وتحدث عن تفاصيل معاملة والده القاسية له وتعنيفه المستمر أمام الغرباء وعدم الاحتواء الذي قابل به شرود الولد… وعاد الولد للبكاء مرة أخري… واستطاع أن يجذب الدموع من عيني إذ أنه في عمر ابني فأطلقت العنان لخيالي: ماذا لو كان هذا الشاب ابني؟ هل كنت سأجلس بهذا الهدوء هكذا ماذا سأفعل؟ واخترقت دموعي ضميره مثلما اخترقت دموعه وجداني فهب فجأة وأغلق الباب وقال أنا عمر ما حد بكي علشاني ودموعك دي لازم تخليني أعترف لك أنا كنت بنصب عليكي وأجهش في البكاء.
تركت مقعدي وابتسمت له قائلة: طب ما أنا عارفة لكن أنت أغلي من الفلوس والأهم أنك تبعد عن اللي بيخليك تنصب والأهم أني كنت متأكدة أنك مش هاتكمل للآخر وهاتقولي.
اطمئن وبدأ الولد يسرد اعترافات كاملة بالأسماء والأرقام عن عمليات نصب كبيرة وصغيرة تمت علي شخصيات عامة وشخصيات كنسية لست في حل لذكر أي منها هنا… سمعته وسجلت ما قاله عن عمليات ينوي الشخص المحرض له علي القيام بها وقمت علي الفور بإبلاغ المستهدفين وتحذيرهم… فرح الشاب جدا وشعر أنه قام بعمل بطولي وقال: أنا مش نصاب أنا نفسي أكون كويس لكن لما مشيت من البيت قابلت ع.ف وكنت في احتياج شديد للمال والمأكل والملبس فسخرني مرة تلو المرة في عمليات النصب وعندما رفضت تركني وشأني ثم لعب علي وتر آخر إذ هددني بمطواة ومارس الجنس معي ملتقطا لي صورا فاضحة مهددا إياي بفضحي أمام عائلتي وأصدقائي وجيراني ومضت الحياة هكذا وأصبحت عبدا له تارة بالصور تارة بالممارسات غير الطبيعية صمت الشاب لحظة ثم اندفع أنا مش وحش أنا خايف أسيبه يأذيني هو واقف حالا تحت الجورنال مستني أنزل له.
أنهي الولد اعترافاته التي بدت سيمفونية متناسقة من اللقاء مع النفس في لحظة صدق… وعزفا منفردا لتطهير الضمير لكن للأسف كان العازف أصم يعزف ويشعر لكنه لا يسمع فيعود ويكرر ذات الوصلات الخاطئة وقررنا أن يخرج من الباب الخلفي للعمارة حتي لا يراه صديق السوء ع.ف وبالفعل أتممنا ما اتفقنا عليه. وبدأت الجريدة رحلة تقصي جديدة عنه توصلنا فيها إلي منزل عائلته وأسرته وتاريخ معاملة الأب له… بعد أسبوعين من تلك الواقعة عثرنا علي عمل مناسب له ووعدنا بالذهاب للالتحاق بالعمل ولم يفعل… وتكرر الأمر بضع مرات تردد خلالها علي الجريدة ثلاث مرات في طلب المال وفي المرة الأخيرة قلت له: من لا يريد أن يعمل فلا يأكل أيضا وليس من الطبيعي أن تظل بلا عمل أنت في التاسعة عشر من عمرك ولم أتوصل إلي سبب رفضه للعمل بوجه عام… قررت أثناء تواجده التحدث إلي أبيه الذي علمنا أنه رجل تقي وورع.
وما أن بدأت المكالمة حتي هب الولد منتفضا رافضا أي تفاوض حول العودة حاولت إقناعه بأنه ما من إنسان علي وجه البسيطة يمكن أن يحبه ويهتم بحاله ويتمني له الخير مثلما يشعر أبوه ولكن دون جدوي… وبعد أن كان يطلب فقط عشرة جنيهات يقتات منها يومه ترك المكان وخرج بلا عودة مما دفعني للثورة علي أبيه قائلة: لماذا خشي الولد عودته إليك هكذا؟ ما الذي يفزعه من الرجوع إلي حضن أسرته؟ ما الذي يدفعه للنوم فوق الأرصفة سنوات طويلة يتعرض فيها لكل أنواع الانتهاك؟ من المؤكد أن السبب ليس فقط في كونه مشاغبا أو جاحدا وإنما للأسرة دور غاب فغابت كل القيم والمعايير التي يجب أن يتحلي بها الابن فضل الطريق.
قال الوالد: المشكلة إن الولد مش عايز يتحمل مسئولية أو شغل… طلبت منه أن يحتمله وكنت علي يقين أن الشاب سيعود بعد دقائق… لم أكد أنهي المكالمة مع أبيه حتي وجدته قادما إلي مكررا طلب العون وقال: أنا ماليش حد دلوقتي غيركم مش لاقي آكل ومحتاج فلوس… عرضت عليه أن أحضر له طعاما ورفضت أن أمنحه مالا في يديه مما أثاره جدا فخرج من عندي مهددا إياي أنه سيبيع كليته وسأكون أنا المتسببة في ذلك ضغطت علي مشاعري كي أدفعه للعودة إلي أبيه وأسرته وقلت له: بيع يا ابني ولا يهمك بس قولي ميعاد العملية علشان أزورك.
كنت أعلم يقينا أنه إذا سدت الأبواب في وجهه خاصة بعدما ترك ذاك النصاب أنه لا ملاذ له سوي أسرته وراهنت بيني وبين نفسي علي عودته إذا ما رفعت يدي عن مساعدته. بعد عام ونصف العام حاولت فيها احتوائه ولم يكن من الحكمة أن أستمر فيفقد أسرته للأبد… انقطعت أخباره لمدة ثلاثة أسابيع كنا فيها علي اتصال بوالده ننصحه بفتح الأحضان الأبوية بلا لوم أو عتاب أو تأنيب إذا ما عاد الولد… ومنذ أيام تلقي الباب اتصالا من والد الشاب قال فيه: ابني رجع… كلمني وقال لي إنه اتبهدل واتمرمط وخلاص مش قادر يعيش في الشوارع تاني وأنا بأطمنكم عليه وأشكركم لاحتوائكم ليه.
إنها قصة آلاف من الشباب وليس هذا الشاب… كثيرون فقدوا الطريق حينما فقدوا الحنان الأسري, كثيرون فقدوا أنفسهم وكثيرون أيضا انتهي بهم الأمر خلف أسوار السجون وإن كنا استطعنا إنقاذ واحد منهم من هذا المصير المظلم لكن يظل في كل أسرة زهور تحتاج العناية والحب وبدونه تتعاظم احتمالات فقدانهم. ليتنا نعي كم هي غالية وحساسة تلك الزهور.
==========
إيد الحب
امتدت أيادي الحب بالمبالغ التالية:
10000 جنيه فاعل خير
500 جنيه فاعل خير
2400 جنيه فاعل خير
25 جنيها من يدك وأعطيناك