وطن الكارو!!
لم أستطع منع نفسي عن عرض واقعة مأساوية كنت جزءا أصيلا منها …مسرح الواقعة سيارة إحدي صديقاتي حيث جلست بجوارها أثناء اصطحابها لي عائدة لمنزلي, في منتصف الطريق فوجئنا بصوت ارتطام شديد بالسيارة من الخلف وصاحبه تناثر شظايا الزجاج علينا, ووسط الهلع تبين لنا أن عربةكارومحملة بثلاث بالات ضخمة ممتلئة بقصاصات الورق يجرها حصان جامح جموحا شديدا,ارتطمت بسيارتنا, وكأن جبلا يسقط فوقنا ,حتي أنالعريشالخشبة الطويلة التي تربط بين جسم الكارو والحصان اخترقت الزجاج الخلفي للسيارة وحطمته ثم اندفعت لتصطدم برأسي بعنف -فقدت الوعي علي إثرها لحظات-وتركتني لتواصل اختراق سقف السيارة أعلي المقعد الذي أجلس عليه فإنهار الزجاج الأمامي فوقنا نحن الاثنتين حتي أنه غاص داخل شعري وملابسي وتناثر فوق الحجاب الذي ترتديه صديقتي مغطيا إياه تماما.
أصابتنا هيستريا من الصراخ لم تتوقف حتي أخرجتنا الجموع الملتفة حول الحادث, وبعد أن أدركنا أننا مازلنا علي قيد الحياة وبلا إصابات خطيرة ,كما أدركنا أن لنا شريكا آخر في الحادث هو قائد سيارة مجاورة طالها الحصان الجامح أيضا. التف حولنا ضباط الشرطة والأمناء وطلبوا البطاقات الشخصية والرخص التي أخذوها وذهبوا ,ظللنا في الشارع بعد أن انفض الجمع الملتف حولنا, لانعلم ماذا نفعل.. استمر الوضع هكذا لمدة نحو نصف ساعة ,ثم بحثنا عن أحد لنخاطبة وذهبنا لأحد الضباط والمتواجد في الميدان القريب من الحادث فقال: عليكم الذهاب للقسم لاسترجاع الرخص والبطاقات, وأثناء حديثنا معه فوجئنا بامرأة في منتصف الأربعينيات تهرول إلينا قائلة أنا مستعدة أدفع تكاليف تصليح العربية بس بلاش محضر.
قالت صديقتي:العربية اتدمرت هاطلب حقي من مين؟ من الحصان؟ ولا من العربجي؟.. صاح صاحب السيارة الأخري المتضررة من الحادث الست دي صاحبة الكارو لازم تعوضنا عن الخسائر,وأنا لازم أعمل محضر.عربيتي مؤمن عليها والمحضر هو الحاجة الوحيدة إللي تثبت الحادث وأقدر آخد حقي بيها أرجوكم ماتسيبوش حقكم
بعد عشر دقائق جاءنا أحد الضباط وقد بدت عليه اللهفة وقال:تعالوا معايا علي القسموعندما وصلنا القسم لم نمر علي النوبيتجية المتواجدة في الدور الأرضي,بل أصعدنا ذلك الضابط إلي مكتبه في الدور الثاني مباشرة وقال:عايزين إيه؟
فقلت له:نعمل الصح
قال:دول عربجية هاتاخدوا إيه منهم والمنطقة هناقحطأهلها غلابة.
اقترحت مالكة الكارو دفع 100 جنيه فقلنا لها إن المبلغ زهيد للغاية وبعد تفاوض طال لمدة ساعة قالت:أنا ماعنديش هاخرج أشوف حد من العساكر أو البيه الظابط يضمني ويديني 50 جنيه كمانبدأت الأمور تتضح فلايوجد أمين شرطة أو ضابط في القسم لايعرفها,وفي ذات الوقت جميعهم في أداء مسرحي هابط يحاولون إقناع الجميع أن يرقوا لحالها ويتنازلوا عن التعويض. استسلمنا للأمر خاصة بعد أن تيقنا أنه لافائدة وما إن أدرنا ظهورنا لنترك مكتبه حتي دخل صاحب السيارة الحديثة مطالبا بضرورة عمل محضر,وحدث مالم يخطر علي بال..
قال صاحب السيارة:عايز أعمل محضر يا باشا
الضابط:وماله نعمل محضر.عايز تقول إيه
صاحب السيارة:أقول اللي حصل
الضابط:طيب ها تستفيد إيه لما تسجنها أنت يهمك المحضر علشان شركة التأمين قول إن ميكروباص خبط العربية وهرب.
صاحب السيارة:بس ده ماحصلش
الضابط:بيحصل كتير.
صاحب السيارة:اللي خبطنيكارو
الضابط:خلاص قول كارو خبطني وهرب وماعرفتش أجيبه تاني.
صاحب السيارة: صحيح العربجي مش موجود بس صاحبة الكارو موجودة.
الضابط:هاتستفيد إيه من سجنها قول كده وخلاص
صاحب السيارة :لأ هاعمل محضر باللي حصل بالضبط
وتوجهنا جميعا للنوبيتجية لعمل المحاضر حيث صاح العقيد المسئول قائلا:أخدهم ليه من الأول فوق ليه مش عايز الناس تأخذ حقوقها ما كان من الأول
تم فتح التحقيق فوجئنا جميعا بمالكة الكارو وتقول:الناس دي يا باشا هم اللي داسوا ابني وقلبوه من فوق الكارو وعوروا الحصان.
أصابنا الذهول فصحنا:مش ممكن ندخل مجني علينا نخرج من القسم جناة؟!!
في حدة قال أحد الضباط الموجودين:إيه فيه إيه؟!كل اللي عايز يقول حاجة في المحضر يقولها أنتم تقولوا اللي عايزينه وهي تقول اللي عايزاه.قلت له:بس ثلاثة منكم كانوا حاضرين الحادثة في الشارع وشافوها,قال:إحنا ماننفعش نكون شهود ومالناش دعوة إحنا برة الموضوع.
بعد المحضر تم تحويلي للمستشفي الميري لتوقيع الكشف الطبي علي إصابة رأسي حيث تم ذلك في طرقة المستشفي فالطبيب المختص مشغول جدا وقال:اشتباه في ارتجاج
لم أفتح فمي بكلمة واحدة,لملمت الحسرة علي ما آلت إليه أحوالنا في بلد كنت أعتقد أن له مقومات الوطن,وفرت الدموع من عيني شاعرة أننا بشر بلا ثمن ,حياة بلا قيمة حقوق ضائعة,مقهورة مظلومة وذهبت إلي سراي النيابة وكانت قد مضت سبع ساعات علي وقوع الحادث.
في سراي النيابة حدث ولا حرج.
فبخلاف الأحوال المتردية جدا لطرقات مبني مجمع الجلاء من حيث النظافة والقمامة,والروائح الكريهة فالسعاة يصيحون علي أبواب حجرات رؤساء النيابة بأقذر الشتائم ويسبون بعضهم البعض بألفاظ يندي لها الجبين بلا أدني حرج,حتي إن صديقتي عندما بحثت عن مكان متر *متر لم تجد أي مكان مناسب لأداء صلاة العشاء .
صعدت للدور الرابع,وهناك كان كل زملاء الواقعة قال رئيس النيابة الذي تلقفني:قولي اللي حصلفرويت له وكنت منهكة جدا من عناء اليوم الطويل وقوة الارتطام برأسي.. نظر لي متمتما ببعض العبارات مع مساعديه وقال:دول ناس غلابة ماعندهمش حاجة شوفوا هاتتصالحوا ولا هاتعملوا إيه
في انهزام شديد قلت له:أنا مش عايزة حاجة أبدا.قال:كده أنت متنازلة.نظرت له وكلي لامبالاة لم أعهدها في نفسي قبلا.
ثم فوجئت به يقول لي:عيب يا صحفية تعملي نفسك عندك ارتجاج فش علي الكرافتة دي؟وبعدين كل اللي حصل ده مش أكثر من مخالفه لقرار المحافظ بعدم سير الكارو في شوارع المدينة.
لم أرد عليه نهائيا فالصدمة أكبر من أي كلام.. خرجنا جميعا من مكتبه تسقنا مرارة الانسحاق تحت وطأة السيطرة والنفوذ وفي نفوسنا تساؤلات:هل هؤلاء هم المنوطون بحمايتنا ؟بإعادة الحقوق لأصحابها,بحفظ الأمن العام, باستقرار المجتمع,بأمان الناس وراحتهم كيف؟!
قالت صديقتي:أي وطن هذا الذي تنقلب فيه جميع المقاييس هكذا؟!قلت لها :إنهوطن الكارو…
** يرد علي مشكلتنا أحد نشطاء حقوق الإنسان فيقول:في هذا الوطن 99.5% يتخلون عن حقوقهم وينزوون بعيدا مقهورين ومؤثرين السلامة وهناك 00.5% فقط يثابرون للوصول إلي حقوقهم من أجل إقرار المواطنة,وعلي من يختار أن يكون عضوا في الفئة الأخيرة أن يدفع الثمن,وربما يمضي عمره كله ولا يحصل علي مواطنته,لكنه يظل مدافعا عن مبدأ المواطنة فلكل قضية ضحاياها…أقترح عليكم تصعيد الأمر في شكوي رسمية لوزارة الداخلية ووزارة العدل بكل ما حدث داخل القسم وفي النيابة ,هذا في حالةما إذا كان اختياركم أن تنضموا لفئة الـ0.5%…صديقتي تخاف علي نفسها ورحلت بقدر رهيب من المرارة والقهر وها أنا وحدي أرفع هذه الشكوي التي أحتفظ بتفاصيلها وأسماء أبطالها لكل من وزير الداخلية ووزير العدل.