0 تفتح ربيع العمر فإذا بزهرتي حياتي تنشران الشذا حولي في كل مكان,ابنان ما أجملهما ثمرة لزيجة لم تدم أكثر من خمس سنوات,رحل بعدها زوجي عن عالمنا ليتركنا نقهر المسئولية أو تقهرنا,ألح علي الطالبون زواجي لكنني رفضت .سعيدة بأمومتي دون أي مشاعر أخري للمرأة .
ضاقت بنا الدنيا مرارا,وتبسمت لنا مرارا أخري حتي صار الطفلان رجلين لا مثيل لهما في الأخلاق والعلم والشكل والوسامة,وبعد أن كنت أحمل مسئوليتهما حملا هما مسئوليتي.دللاني كما لو كنت طفلتهما.أقبلا علي الحياة لا تردهما الصعاب,ولا للاستسلام مكان في قلبيهما ,عمل أحدهما بوظيفة مرموقة,أما الآخر وهو الأصغر ففضل العمل الحر بعد أن تنقل بين عدة وظائف لم يشعر فيها بتحقيق ذاته,وتزوج الابنان صار لكل منهما أسرته الصغيرة.الأكبر له أربعة أبناء,والأصغر له ابنان.
لم يبخلا علي لا بالمال ولا بالوقت,فكان الأكبر يقضي عطلة الأسبوع في بيتي هو وأسرته,أما الأصغر الطموح الذي يحمل في مقلتيه نور الصباح وفي وجنتيه شروق الأمل فيمضي عندي معظم أيام الأسبوع,يملأ صغيراه الدنيا من حولي ضجيجا وصراخا ألفته أذناي وسعدت به.
ذات يوم,ونحن علي مائدة الغذاء أصاب زوجته قيء متتالي تشككت أنها تحمل في أحشائها طفلهما الثالث,وبعد أيام تيقنت من خلال نتائج التحاليل فرحنا جميعا,وكادت السعادة تقفز من وجه ابني,فطالما تمني أن ينجب فتاة ليدعوها باسمي,وفجأة في نفس اليوم أصابه صداع عنيف لم تمض بضع ساعات حتي سيطر هذا الصداع علي رأسه ,ترك حجرته متجولا في المنزل يمينا ويسارا تائها زائغ العينين,يضرب رأسه بكلا كفيه,تأوه آلاما…احمرار لا وصف له غطي وجهه…قئ متواصل واستعنا بالجيران ونقلناه إلي المستشفي,لم يكن بالمصعد متسع للجميع.زج أخاه بي إلي جواره وقال:سألحق بكما علي السلم ممسكا بزوجته التي انكفأت مرات ومرات من هول المفاجأة وفي المصعد رفع حبيبي وجهه إلي يتأملني…وسقط …لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي..مات ابني..لم أستطع أن أمنع الموت عنه ولا الآلام ولا العذاب..روحي انتزعت مني عندما مضي ابن عمري ولم يبلغ الخامسة والثلاثين بعد,ووقفت عاجزة فنحن أمام الموت عاجزون..عاجزون..لو كان الأمر باختياري لقدمت نفسي للموت بدلا عنه,لكنها إرادة الله أن يرحل هو في عنفوان شبابه وأبقي أنا العجوز بأوجاعي وحسرتي عليه.
لم تمر أيام الحداد السبعة الأولي حتي أصابتني ذبحة صدرية وأصابت زوجته نوبة سكر دخلت علي أثرها في غيبوبة وكدنا نجزم أنها ستفقد جنينتها علي أثرها.لكن يشاء الله عكس كل توقعاتنا ومضت الأيام كل منا غارقة في الحزن والمرض معا,وبعد تمام الحمل جاءتنا زهرة جديدة,لكن ولا اعتراض علي مشيئة الله معاقة ذهنيا هكذا جزم الأطباء.
سارت الحياة من سييء لأسوأ فابني لم يكن لديه تأمين اجتماعي ولم يكن له دخل ثابت وزوجته لا تعمل ومعاشي من زوجي لن يكفي لتربية الصغار الثلاثة,وعمهم لا يستطيع الإنفاق علي سبعة أبناء,ثم تحولت الأزمة من ضائقة مادية إلي مشكلة أسرية عندما رفضت زوجة ابني الأكبر تقديم أية مساعدة لهؤلاء الأيتام الثلاثة,إذ عرفت الغيرة الطريق إلي نفسها وراودتها المخاوف من أن يحل ابني المشكلة بالزواج من أرملة أخيه اشتعلت الخلافات بينهما والضحية أرملة ولدي وصغارها.
بحثت الأرملة الحزينة عن عمل وتوليت أنا رعاية الأبناء,ورغم أن عملها كان بسيطا إلا أنه ساهم في رفع الحمل وذات يوم أثناء عودتها من عملها تعثرت في حفرة وأصابها كسر في ساقها اليسري,أقعدها عن العمل شهرا كاملا,وعندما حل موعد نزع الجبس وكانت قد شعرت قبلها بأعراض غريبة فوجئت بأن الساق قد أصابتها غرغريناوكان القرار العسير علي نفس أي إنسان البتر الكامل,بدءا من فوق الركبة رغم قسوة القدر إلا أنها أسلمت أمرها إلي الله راضية,ولكن رحي المآسي قررت أن تضعنا بين شقيها واستنزفت أيامنا,فبعد أقل من ستة أشهر تكرر الأمر في الساق اليمني,وحدث البتر للمرة الثانية.
انطفأت كل بواعث الحياة فيها,لم تعد تري من الدنيا أي أمل حتي أطفالها تركتهم في رعاية والدتها بعد أن استبد بي المرض,فأنا في الخامسة والستين من عمري,صرنا في كل يوم ننتظر مآساة جديدة,ولم تخب ظنوننا فقد انتابتها حالة اكتئاب شديدة أفقدتها الرغبة في الحياة,وتولي ابني الأكبر المسئولية المادية للأبناء رغما عن أنفه,تدهور الحال بها حتي فارقت هذه الدنيا بمآسيها بعد مرور سنة علي البتر الثاني,ولم تبلغ من العمر الحادية والثلاثين,تاركة ابنين (8 سنوات,6 سنوات),وطفلة معاقة ذهنيا (3 سنوات).
وبعد أن كان الصغار في رعاية والدتها انتقلوا إلي رعايتي,فقد وافتها المنية من فرط الحسرة علي ابنتها-أرملة ابني-في اليوم التالي لوفاتها,ليبقي الأبناء بلا أب ولا أم ولا جدة وليس لهم الآن سواي يعيشون معي,ويزورهم عمهم مرتين أسبوعيا,ورغم أنه يتولي الإنفاق عليهم بلا ضجر,خاصة بعد أن أنفتحت أمامه أبواب رزق جديدة يسرها الله له,لكنه لا يتمكن من الإنفاق علي سبعة أبناء بنفس المستوي أو هكذا تقول زوجته.ففي حين يدرس أبناؤه في المدارس الخاصة للغات,يدرس أبناء أخيه في مدرسة حكومية,لايتمتعون بأية ميزة في الحياة .
إني أتمزق حينما أري انكسار اليتم قد أحني رؤوسهم,واعتياد المآسي أذبل وريقات طفولتهم الغضة,وأتساءل:إذا كانت هذه هي معاملة العم في حياتي وتحت بصري,فماذا بعد مماتي ؟!!ولا أخفيك سرا,فقد حاول البعض من فاعلي الخير الذين علموا بمأساة الصغار مساعدتهم,وحمل جزء من المسئولية عنه,لكنه رفض تماما قائلا :لن أقبل إحسانا من أحد علي أبناء أخي طالما حييت..إنني أخشي ما تخبئه الأقدار وشبح التخلي يطاردني فأتصوره كل ليلة وقد أودعهم دارا للأيتام ليرضي زوجته,أعلم أن تلك المخاوف بعيدة التحقق,لكنني أخشي تخليه عنهم…فماذا أفعل؟
00 لصاحبة هذه القصة أقول:
لا تتصوري يا سيدتي مقدار العناء الذي شعرت به وأدنا أسطر كلمات قصتك ,وأعلم أنه سيصيب كل من يقرأها,لكن هذه هي الحياة.التي ترفعنا تارة لأعلي سماء,ثم بعنف تردنا إلي ما دون الأرض فيختبر الله,ويري قوة احتمالنا.
والإ يمان الحقيقي يقتضي منا كما نقبل الخير من يد الله نقبل الضيقات أيضا, عالمين أن زمام الأمور دائما بين راحتيه هو الذي يدبرها بحكمة إلهية تستعصي علي البشر,يدعونا فقط أن نسلمه مقاليد أمورنا,ونحيا واثقين أنه مصدر الحنان,وإن ضاقت الدنيا ستنفرج في الوقت المناسب فالله يجرح ويعصب,يسحق ويداه تشفيان.
لقد اختبرتي خلال خمسة وثلاثين عاما منذ رحيل زوجك تجارب عديدة وكنت تخرجين منها أكثر صلابة وقدرة علي مواجهة المصاعب,وأكثر فرحا واستعدادا لمجابهة الشدائد,لا أستطيع أن أقول لك إنك ستكونين أكثر قرحا,لكني واثقة أنك ستستمدين صلابتك-من إحساسك بالمسئولية تجاه أحفادك فتقهرين المرض.
أما فيما يخص تفريق العم في قدر الإنفاق ورفضه لأية مساعدات ,فالأمر بيد زوجته التي أعتقد أنها لن تلين بسهولة فإعصار المآسي هذا لم يستطع تفتيت الحجارة بقلبها,فماذا تنتظر حتي تلين,فلترضي بالقدر الذي خصصه لهم ولو مؤقتا.
والمشكلة ليست في التفريق المادي بين أبنائه وأبناء أخيه بقدر ما هي في خوفك من المستقبل,فهل خوفك نابع من تكرار الشدائد وحزنك لما أصاب أحفادك أم أنك تعلمين عن أخلاق وخصال ابنك الأكبر ما يدفعه للتخلي عن المسئولية الحتمية لرعاية هؤلاء الصغار,فأنت والدته وأكثر الناس خبرة والوحيدة التي تستطيع الإجابة عن هذا التساؤل,فإذا كانت الإجابة بنعم يجب تأمين مستقبلهم حتي لو علي حساب ؟؟؟ والمستعدون للمساعدة كثيرون,أما إذا كانت الإجابة بالنفي فلا تتركي المخاوف المريضة تؤرقك وكفاك ما مررتي به.
ولتفرغي مشاعرك من كل قلق حتي تتمكني من إسعاد الصغار ثقي في معونة الله,واعلمي أننا نعرف الماضي,ونملك الحاضر ونسعي لتأمين المستقبل ,وليس لنا سلطان علي جميعها فلا تنشغلي بمخاوفك وتتشاحني مع ابنك,فأحفادك وديعة ومهمتك الحفاظ عليها وإعادة البسمة إلي شفاهم وتحويل الانكسار إلي فرحة والذبول إلي نضرة,ليتسلحوا بالسواء النفسي بعدما سحقتهم المعاناة, ولن تستطيعي فعل ذلك إلا بالأمل في الغد وليس الخوف ولا التشاؤم.
في أعظم متحف للشمع في لندن يوجد تمثال لفتاة منحنية تجلس فوق كرة الأرض,ممسكة بيديها قيثارة ذات سبعة أوتار تمزقت ستة منها…الواحد تلو الآخر,لكنها لم تيأس وظلت تعزف في غير قلق,هل تعلمين ما اسم هذا التمثال ,إنه تمثالالأملفكرة الأرض كلها تحيا بالأمل,فدعي الغد للغد,وكما يقول الكتاب المقدسلاتهتموا بالغد فإن الغد يهتم بنفسه يكفي اليوم شره.