ما أقسي الفقر والحرمان,وما أبشع العوز عندما يأسر الناس ويمنعهم حتي عن الأحلام فيعيشون يوما ويموتون أياما عن الحياة محرومين إلا من بعض فتات يلقيها نفر منا بعد كل وجبة في أقرب سلة لبقايا الطعام.
ويا لبشاعة الأقدار عندما يقترن الحرمان والفقر بالمرض خاصة الخطير منه,للأسف إنها الحقيقة المرة فالفقراء يعانون ويظلون قيد المعاناة ما لم ينتشلهم القادرون,تلك هي وجيعة هذا العدد من افتح قلبكجاء والبؤس يعلو وجنتيه رغم أنه في العقد الثالث من عمره وروي قائلا:
أنا شاب أبلغ من العمر 28 سنة,لم أنل حظي من التعليم فلم يكن لي اختيار أتعلم يا أساعد أهلي إذ أنني أنتمي لأسرة تعيش تحت خط الفقر بمراحل,كثيرا ما عشنا علي الكفاف,كثيرا ما حرمتنا الأقدار من أقل القليل اللازم للحياة,أبي مقعد علي كرسي متحرك,أمي سيدة عجوز مريضة,أخي في السنة الثالثة من المرحلة الإعدادية كنا نعيش علي المساعدات من الكنيسة والجيران وكنت أنزل الغيط يوم ويوم أقضي طلب لحد من البلد وأهي أيام وبتتقضي.
تزوجت منذ بضع سنوات,وأنجبت طفلين الأكبر عمره ست سنوات,والأصغر ثلاث سنوات,الحمل ثقيل جدا حاولت إيجاد عمل لنتعايش منه جميعا ودون جدوي فنحن ستة أفراد,أنا المسئول الوحيد عن كل احتياجاتهم,وليس لي مورد ثابت للرزق,سدت كل السبل في وجهي ولم يكن أمامي إلا أن أبحث عن مكان آخر ربما أجد فيه ضالتي المنشودة لنعيش جميعا راضين بما قسم الله لنا به.
أتيت من جوف صعيد مصر إلي القاهرة بعد أن ضاقت بي الدنيا,ولجأت إلي الكنيسة فعملت في إحدي دور الخدمات التابعة لإحدي كنائس القاهرة عاملا براتب شهري 350 جنيها,تركت أسرتي وابناي وزوجتي,وبت الليالي علي فراش تحت بير السلم في مبني الخدمات راضيا بالأيام الأربعة التي أحصل عليها في نهاية كل شهر كإجازة مجمعة عن الأسابيع الأربعة فأهرع إلي أهلي لأسلمهم الجزء الأكبر من راتبي وأعيش هنا بالكاد.
لم أكن نادما يوما ولم أكن ساخطا أبدا علي هذا الوضع بل دعوت الله أن يتم علي نعمة العمل المستقر.إلي أن حل يوم 27 يوليو الماضي,الذي حمل لي ما لم أتوقعه أبدا, فجأة أصيب ابني الأكبر بسخونة شديدة,ثم قيء متوالي يتبعه إسهال رهيب, ظننا في باديء الأمر أنه أصيب بنزلة معوية وترددنا علي الأطباء يسلمنا طبيب لآخر ولا أحد يعلم ماذا بولدي فالسخونة لاتهدأ والقيء لاينقطع وكذلك الإسهال.
حملته كالمجنون إلي المستشفي العام في المحافظة التي نتبعها بالصعيد, طلبوا هناك تحاليل كثيرة جدا,تمزقت مرارا حتي أتمكن من إجرائها سريعا ثم سقط جبل المحن فوق رأسي,ولدي مصاب بسرطان الدماللوكيميازهرة أملت كثيرا أن أضخ بها رحيقا لم تمنحني الأقدار إياه وربيعا تمنيت أن أحقق فيه ما حرمني الفقر منه, لكن يبدو أن الهزيمة تلاحقني أينما حللت حولني المستشفي في بلدتي إلي مستشفي أبو الريش للأطفال وهناك قرروا إحالة الولد لمعهد الأورام وفي نهاية المطاف أصر معهد الأورام علي إعادة كافة التحاليل مرة أخري, قائلين إحنا مش بنعترف بأي تحاليل خارج المكانوخضعت لكل الأوامر ونفذت والله وحده يعلم كيف كنت أدبر أمري وكيف قضيت الساعات هائما علي وجهي أقترض من كل من يصادفني,ثم طلب الأطباء منا الانتظار في المعهد لتلقي جرعة العلاج الكيماوي الأولي وظللنا هناك ما يقرب من شهر كامل,بدأ فيه شعر ولدي يتساقط بعد أن كان منسدلا علي جبهته وأذنيه.
خشيت علي معنوياته, اصطحبته لأقربحلاقوأقنعته أن الأفضل للولدالحلاقة الزيرو,استسلم صغيري راضيا بمصيره بين أقرانه ومن هم في مثل عمره وعدنا للعلاج الكيماوي مرتين متتاليتين بعد ذلك والأمر لم يتغير بل ظلت نسبة المرض كما هي تمثل 84%.
أشار الأطباء بزرع نخاع, أدركنا أن هذا هو الحل الأمثل وسعينا في الطريق, فقالوا لنا إنه لابد من إجراء تحاليل توافق أنسجة ولايمكن مده بنخاع إلا من خلال أخيه الأصغر ثلاث سنوات لأن هذه العملية تشترط أن يكون المتبرع أخا أو أختا من الأشقاء.
ضاق صدري ,دارت الدنيا برأسي, سيضيع ولداي سويا,ماذا أفعل؟إنه الاختيار الصعب,هل أضحي بأحدهما أم أنقذه وأزج بالطفلين إلي مغامرة التضحية سويا أم أترك الأكبر ليخبو رويدا رويدا ثم تنطفيء شمعة حياته وأفقد فلذة كبدي؟ أنا لا أعرف ماذا أفعل لكنني سرت في دربي مكبلا منساقا وراء الأطباء فأجريت كل الفحوص اللازمة لتوافق الأنسجة والتي أثبتت التوافق التام وهو ما لايحدث إلا نادرا, قال لي البعض إنها إرادة الله حتي تتم العملية, قلت بعد وقت طويل من التردد سأقدمهما للعمليةوربنا هو اللي أداهم لي وهو إلي يحافظ عليهم ويا إما يموتوا الاتنين أو يخفوا الاتنين.
لم ألبث أن اخترت قراري إلا وظهر عائق آخر أمامي وهو التكاليف فالعملية تتكلف مائة ألف جنيه أصر معهد الأورام علي سدادها بشيك للمعهد قبل إجراء العملية التي أجمع الأطباء علي ضرورة إجرائها قبل نهاية هذا العام أي خلال شهرين من الآن وإلا فلا داعي لها.أيقنت أنني حسمت الاختيار فلا مال لي ولا مورد لكل هذه الأموال ,انفتح باب اخر أمامي وإذا بأحد خدام الكنيسة يساعدني في إتمام إجراءات التأمين الصحي الذي تعهد بتحمل 50% من تكاليف العملية,ولكن من أين لي بالنصف الآخر وأنا معدم من قبل ومن بعد,ومن أين لي الاختيار؟ من أين لي الصبر؟لا أعرف ماذا أفعل؟الحيرة تقتلني والفقر دائما يهزمني وأنا عاجز تماما لا أملك إلا أن أرفع وجهي إلي الله ربما يرزقني الحل ويسدد الاحتياج قبل الموعد المقرر.
لصاحب هذه المأساة ترد الدكتورة أسماء عطية بمعهد الأورام:
تكمن الخطورة في تلك الحالة في تعرض الطفل الصغير للتخدير وتلك هي الخطورة العادية التي يمكن أن يتعرض لها أي طفل في أي عملية حال تعرضه للتخدير الكلي,أما الخطورة الحقيقية في احتمال رفض جسم الطفل الأكبر للنخاع,وبالتالي ستكون فرصة الشفاء شبه منعدمة, لكن لايمكننا القول بإن تقديم الطفلين للجراحة مغامرة بالطفلين, خاصة أن الجراح يأخذ النخاع علي قدر سن ووزن الطفل المتبرع وبما تسمح به حالته حفاظا علي حياته فلا داعي للخوف .
رأي المحررة:
إنه الاختيار الأصعب أن تقدم ولديك للمغامرة,لكن صدقني أنه الاختيار الأكرم فلا يمكن أن نضحي بإنسان ونحن نملك أن نمنحه الحياة,خاصة عندما يكون هذا الإنسان لا حيلة له في أمره,وتذكر يا أخي دائما أن الله هو الذي منحك إياهما وأيضا هو الذي حرم الكثيرين نعمة الإنجاب,فسلم أمرك إلي الله ونفذ نصائح الأطباء,أما عن المشكلة المالية فأنا علي ثقة أن أيادي الخير ممتدة لك منذ الوهلة الأولي لقراء السطور السابقة ولن تبقي وحدك طالما في الدنيا قلوب رحيمة.
أما عن هزيمة الفقر لك ولحياة ابنك فثق أن من يهزمنا ليس الفقر ولا التجارب وإنما أن نجد أنفسنا وسط جبال المحن وحدنا بلا سند,وهذا ما لم يحدث لك ففي كل مرة كانت الأقدار تقذفك بقذيفة من العيار الثقيل كان الله يمنحك المنفذ.
تذكر عملك في القاهرة بعد طول انتظار ورغم بساطته إلا أنه كان يحقق لك نوعا من الرضا,تذكر الخادم الذي ربما يكون في المستقبل القريب هو سبب نجاة ابنك بعدما قدم أوراقك للتأمين الصحي وبعدما أرشدك إلي باب افتح قلبك لنتمكن من مساعدتك,ثق أنت منتصر فلست وحدك.