كيف يمكننا أن نصمد أمام دموع المجروحين ؟؟ كيف لنا أن نتماسك أمام انهيارات الحزاني والمتألمين ؟؟ هل يمكن أن نشاهد أسدا يفترس صديقا فنقف ضاحكين ؟؟ هكذا تفترس الأحزان أناسا يحتاجون أن ندمع لدموعهم ونتألم لآلامهم .. ونبكي معهم دون أن نتخلي عن كوننا سندا لهم وقت الضيق .. راودتني تلك الأسئلة عندما جاءتني سيدة في الثامنة والثلاثين من عمرها .. بدأت حديثها قائلة ## أنا ندمانة أني جيت هنا ده مش جوي ولا حالي .. أنا ممكن أخدم هنا لكن ماجيش أتكلم مع حد## .. مزقتني عباراتها وإحساسها المتأزم بالدونية .. سحقت قلبي دموعها ومشاعرها الجر يحة .. روت لي قائلة: ##..تزوجت منذ عشر سنوات.. وأنجبت ابنة واحدة .. زوجي رجل طيب .. لكنه قليل الحظ في العمل فلم يتمكن من عمل يوفر لنا حماية اجتماعية أو تأمينات .. كل الشركات الخاصة تراهن علي راتب كبير دون الالتزام بتأمينات توفر معاشا حال حدوث أي ظرف غير متوقع .. تنقل بين الشركات إذ كان يعمل محاسبا.. ومرت الأيام .. وصلت ابنتي إلي عمر عشرة أشهر .. بدأت الحياة تتلون بلون ابتسامتها .. و لون براءتها .. وبنعومة الطفولة التي تملأها .. في نفس الوقت بدأ المستقبل يتراقص أمام أعيننا ملوحا بالخطورة إذا لم نؤمنه لها .. عشرة أشهر كان عمرها آنذاك وأنا أفكر وأكرر في كل يوم علي مسامع أبيها أن يبحث عن عمل مستقر بأي راتب .. لكن الأقدار كانت أسبق إليه من إلحاحي .
استيقظت ذات صباح علي بكاء ابنتي .. إنها تبكي دون سبب عكس كل الأيام التي تصحو فيها ويصحو الربيع معها ضاحكا متفائلا بديعا .. حملتها علي كتفي و توجهت إلي المطبخ لأعد لزوجي الإفطار قبل أن يرحل إلي عمله .. ثم دخلت إلي حجرة نومي أوقظ زوجي لكنه لم يستيقظ .. ظللت أصارع جسده الساكن في هزات متتالية ربما يصحو .. لكنه لم يصح .. بعنف أحاول أن أفيقه ظنا مني أنه في غيبوبة ثقيلة .. لكن السكون خيم عليه .. إنه سكون الموت .. صرخت في وجهه ## قم يا زوجي يا حبيبي يا عمري .. قم .. لا تذهب الآن .. ليس لنا سواك .. استعد الأنفاس .. انتزع الحياة من قلب الموت .. انتصر لشبابك .. لا تتركني.. لا تترك ابنتنا .. لمن تترك هذه الرضيعة ؟؟ لمن تترك صبايا ؟؟##.. ظللت أصرخ وابنتي تصرخ معي وكأنما تعلم وتدرك ما يحدث.##.انفجرت المرأة باكية .. وشعرت أنها تستعيد كل ذكريات الماضي المؤلمة .. فلم أتدخل للتطييب أو للمواساة فالجرح المستعاد من رحم الذاكرة أعمق من أي مواساة ..لأنه رقد في باطن مشاعرنا .. ونام راقدا في كل خلايانا .. تركتها تعبر أمامي عن جراحها تبكي وتحزن وتلوم الأقدار ثم أكملت قائلة ## سيطر الحزن علينا .. في سباق الحياة وصراع الفقر انخرطنا .. وبالرغم من أنني بكالوريوس تجارة إلا أنني لا أعمل ولا أعرف أن أعمل أي شيء فلست مؤهلة بلغة أو بدورات كمبيوتر متخصصة .. كان منزلنا علي نظام الإيجار الجديد فتركناه .. من أين لنا أن ندفع إيجاره وليس لي معاش أو تأمينات للوفاء حتي بالنفقات اليومية العادية ..تركت منزلي وذهبت للإقامة مع أبي وأمي . أبي رجل علي المعاش .. وأمي امرأة عجوز مريضة .. مكثت معهما أخدم والدتي, أراعي والدي .. كبرت ابنتي في ظل اليتم والعوز والحرمان .. ساعدني أهل الخير علي إلحاقها بمدرسة خاصة .. نفقاتها 1500 جنيه سنويا .. فهي ابنة وحيدة .. من حقها علي الأقل أن تلتحق بمدرسة غير حكومية في ظل تردي منظومة التعليم الحكومي كلها ..
لكن يبدو أنه ليس من حق الفقراء النظر إلي أبعد مما هو تحت أقدامهم .. تعثر الحال بنا كثيرا .. اضطر أبي لعمل قرض من معاشه الذي يبلغ 600 جنيه .. ويسدد حاليا قيمة القرض علي عشر سنوات فلا يتقاضي معاشا شهريا سوي مائة جنيه فقط .. تدهور الحال بنا أكثر فأكثر .. صرنا لا نجد قوتنا اليومي ..
استمر الحال هكذا لمدة 8 سنوات هي عمر ابنتي الآن .. نمد الأيادي نتلقي مساعدة من هنا وهناك .. نبيت أحيانا دامعين غير عالمين كيف سنقضي اليوم القادم .. وبيتنا يخلو حتي من الخبز والزيت .. تمر علي بعض الأيام انطلق إلي الشارع هائمة علي وجهي .. أبكي وحدي .. فالمسئولية كسرتني .. أهيم لا أعلم من أين آتي بقوت يوم تال .. بمصروفات مدرسية .. بعلاج والدتي .. بتكاليف النور والمياه وإيجار المنزل .. انحني كاهلي .. ما عاد للحياة لون سوي لون الضباب .. مستقبل مظلم وحياة ملؤها الحرمان .. وطفلة عيونها تنطق ## لماذا حالنا هكذا وزملائي خلاف ذلك ## .. حياة الموت أهون علي منها .. حياة علمتني كيف يكسرنا العجز أمام أبنائنا .. حينما نعجز عن تلبية متطلباتهم الأساسية .. علمتني كيف ننكسر أمام شيب والدينا اللذين حملا عنا المسئولية .. وعلينا أن نحملهما في المشيب .. بينما أنا عاجزة حتي عن حمل نفسي.
بكت كثيرا ولم أملك إلا أن أصمت وأستمع إليها لأنني لم أملك إلا أن أبكي معها .. أكملت قائلة ## في يأسي بحثت عن عمل .. التحقت بالعمل في عيادة طبيب .. عملت ##تومرجية ##.. أرتب العيادة وأمسح الأرضيات و أجهز المكان قبل قدوم الطبيب مقابل 150 جنيها في الشهر .. من 12 ظهرا إلي 3 عصرا حتي أتمكن من رعاية ابنتي وأمي في الوقت المتبقي من اليوم .. لست نادمة علي هذا العمل لأنني أري في نفسي أنني لا يمكنني أن أعمل سواه .. ولا أستطيع أن أتواجد في عمل أزامل فيه أناسا يضعونني دائما في الشعور المخزي بأنني أقل منهم حظا ومالا وعلما والأكثر حرمانا.. كل ما أطلبه في الحياة أن أفرح بابنتي .. أن أجدها شابة جميلة متفوقة .. بصحة جيدة وفي مكانة عالية هل يكثر هذا علي الله أو صناع الخير أيادي الله علي الأرض ؟!